في الخامس عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1966، توقف “بنك إنترا” في بيروت عن دفع الأموال للمودعين، وفي الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه قالت صحيفة “الحياة” إن ابراهيم بيدس أمين سر مجلس إدارة “بنك إنترا” عزا أزمة البنك في بيان أصدره مجلس إدارته إلى ارتفاع الفوائد العالمية، وقال بيدس “لكن ما لم يتمكن البنك من التحسب له هو هذا الهجوم المفاجىء بقصد سحب الودائع منه، إذ أن شائعات مغرضة اشتركت بها عناصر مختلفة متعددة كانت تحرّض الناس على سحب ودائعهم حتى اضطر ـ البنك ـ أن يدفع في شهر واحد مبلغاً لم يقل عن مئة وإثنتي عشر مليون ليرة لبنانية، وكان البنك يأمل بالحصول من البنك المركزي ـ اللبناني ـ على سيولة تتناسب مع قيمة الأسهم والسندات التي يملكها فحصل فقط على خمسة عشر مليون ليرة”.
وكعادة الخاسرين، رمى بيدس انهيار “إنترا” على “نظرية المؤامرة” فوزعها كما جاء في بيانه على فرعين “مؤامرة السحب” و”مؤامرة” المصرف المركزي اللبناني، ولكن نجيب صالحة الذي تولى رئاسة مجلس إدارة “إنترا” بعد فرار المؤسس يوسف بيدس، وفي حوار (17 ـ 11 ـ 1966) مع صحيفة “الحياة” ناقض ما أدلى به بيدس عن “مؤامرة السحب النقدي”، وقال “يمكنني التأكيد أن عملية السحب عادية وسببها الشائعات وحدها وليس ثمة شيء مدبر”، لكنه ألقى كرة المؤامرة في مرمى البنك المركزي “نقولها أولاً ونقولها ثانياً وسنقولها بإستمرار”.
يوسف بيدس الذي كان أسّس “إنترا” في مطلع الخمسينيات، وفي لحظة ثأر من لبنان بعد انهيار أعماله وأمواله، تحدث لمجلة “لايف” الأميركية عن “مؤامرة دبّرها أعداؤه”، واتهم عبدالله اليافي رئيس وزراء لبنان الأسبق بالإشتراك في هذه المؤامرة “لأنه رفض إعطاءه قرضاً من البنك” على ما نقلت صحيفة “فلسطين” المقدسية (27 ـ 1 ـ1967) عن المجلة الأميركية، وقال بيدس “إن اقتصاد لبنان يتضعضع بعد إفلاس مصرفه ولم يعد لبنان أرض الحرية التي يعرفها الجميع وقد أصبح أرض القتلة واللصوص”.
الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو الذي شهد عهده انهيار “إنترا” يقول في كتاب مذكراته “حياة وذكريات”: “لقد قالوا إن إنترا ذهب ضحية مؤامرة وما أكثر الحديث عن مؤامرات في مثل هذه المحن”، ويشرح حلو أسباب انهيار “إنترا” قائلاً:
“انهار ما سُمي إمبراطورية إنترا لأسباب عديدة على رأسها السبب الرئيسي لإنهيار كل إمبراطورية ألا وهو اتساعها، وبالتحديد سرعة الإتساع وما يرافقه من مغامرات ناجحة في بعض الأحيان وفاشلة في بعضها الآخر وخطرة في كل الأحيان، إذ تكفي كبوة واحدة للقضاء على كل ما سبق من نجاح، فكيف بالحال إذا تعددت الكبوات”؟
واستدعت الحملة الإنتقامية من بيدس على لبنان رداً من الرئيس رشيد كرامي (“الحياة” ـ 27 ـ 1 ـ 1967) فصرّح قائلاً إن بيدس “ليس بذاك الربّان الشجاع الذي يدافع عن مركزه وآثر البقاء في الخارج”.
بعد شهر واحد من انفجار أزمة “بنك إنترا” اتخذت السلطات اللبنانية قرارا بحماية صغار المودعين، وهو قرار أول ما تتخذه سلطات الدول التي تضربها عواصف مالية، وهذا ما جرى في قبرص وإيسلندا واليونان بعد أزماتها المعروفة منذ أكثر من عقد، بينما وبعد ثلاث سنوات من الكارثة اللبنانية يستمر نهب المودعين الصغار وحماية الناهبين الكبار
وأما الرئيس صائب سلام وفي جلسة نيابية صاخبة ناقشت أسباب انهيار “إنترا” وغطت صحيفة “الحياة” وقائعها (1 ـ 12 ـ 1966) فقد ذهب إلى حدود اتهام المصرف المنهار بالإحتيال وقال “لماذا نفتش عن الشمس في رابعة النهار؟ إن سبب أزمة بنك إنترا هو بنك إنترا نفسه والبناء الذي يقوم على الرمال ينهار عند هبوب أول ريح، والصرح الذي يُبنى على فساد لا بد أن ينهار من داخله، كلكم قرأتم خبر وكالات الأنباء، فقد ذهب بنك إنترا عام 1961 إلى باريس ليسجل فرعه هناك، وأحيل الطلب إلى لجنة البنوك فرُفض، ورُفع الطلب إلى وزير المالية فرفضه، وإذ بعد انقضاء أشهر أعطي بنك إنترا إجازة، وتقول الأنباء إن بنك إنترا اتصل بوزير ونائب وحين أذيع الخبر استقال الوزير”.
وهذا الإحتيال سيتحدث عنه الرئيس شارل حلو في مذكراته أيضاً “طلب مني السيد يوسف بيدس موعداً في 23 آب/اغسطس 1966 وعرض أن لديه إمكانيات ضخمة سيضعها في خدمة الإقتصاد الوطني إذا أمده البنك المركزي بما يحتاج من مال لقاء إيداعه مصرف لبنان ما يملكه إنترا من أسهم، واستوضحت والرئيس ـ عبدالله ـ اليافي تصرف البنك المركزي في مثل هذه الحال فكان الجواب أن مجلس الحاكمية قد اتخذ قرارا قبل مدة بالإقلال من عملية التسليف خصوصا لقاء الأسهم، أما السيد بيدس فلم ينتظر جوابي وسافر إلى فرنسا، وفي منتصف أيلول/سبتمبر أعلمني مدير غرفة الرئاسة الياس سركيس ـ رئيس الجمهورية بين 1976 و1982 ـ أن موفداً خاصاً جاء من قبل بيدس طالباً المساعدة الفورية من الحكومة والبنك المركزي”.
ويتضح مما يكشفه شارل حلو أن بيدس الذي كان يعلم بإضطراب أوضاع مصرفه سعى في لقائه مع الرئيس اللبناني إلى الإستلاف من مصرف لبنان المركزي لتغطية خسائره، وخانته الصراحة والشفافية فسلك طريق الإعوجاج في طلب الإستلاف، ولو صادق المسؤولون اللبنانيون على مطالبه لوقعوا في تهلكة التفريط بأموال المصرف المركزي.
ويكشف وزير الإعلام الكويتي الأسبق سامي عبد اللطيف النصف في مقالة حديثة (28 ـ7ـ 2022) في صحيفة “النهار” الكويتية، وكانت بلاده من أكبر المساهمين في إنترا “عن سلوكيات يوسف بيدس” وقصص مغامراته ومقامراته بأموال العالم، “حيث نُشر ذات مرة كيف كسب خلال ساعة 35 مليون فرنك (فرنسي) وخسر خلال الساعة التي تليها 65 مليون فرنك دون أن يرف له جفن، ومن أوراق التحقيق نكتشف أن الكويت أودعت في بنكه مليون جنيه استرليني قام بتحويلها على الفور لحسابه السري الخاص رقم 4994، إضافة إلى استيلائه على أرباح وديعة من 3 ملايين أودعتها الكويت في بنكه”.
وبموازة ذلك، يبقى السؤال مطروحاً حول امتناع مصرف لبنان عن تقديم المدد ويد العون لمصرف “إنترا” وحيال ذلك هذه الشهادات:
ـ إن نجيب صالحة رئيس مجلس إدارة “بنك إنترا” بعد تواري يوسف بيدس، وبحسب رواية الرئيس شارل حلو، لم يكن على إطلاع كاف بواقع “إنترا” أو انه كان يخفي الحقائق “وما كان يزيدنا اقتناعا بصحة موقفنا ـ عدم تعويم إنترا ـ ما كنا نسجل من تغييرات في مقدار المبالغ التي كان يطلبها مندوب بيدس، فهي تارة في حدود الستين مليون ليرة وطورا في حدود الثلاثين مليون ليرة، وفي 14 تشرين الأول/أكتوبر 1966 انعقد مجلس الوزراء وحضر الإجتماع نجيب صالحة وسُئل عن المبلغ الذي يحتاج إليه البنك لصد الهجوم ـ السحوبات ـ فلم يستطع الإجابة وقال إن البنك قد يحتاج إلى مئة أو إلى مئتين او أربعمئة مليون ليرة”.
ـ في حديث شخصي مع غياث اليافي نجل رئيس الحكومة الأسبق عبدالله اليافي الذي اتهمه بيدس بـ”التآمر” عليه، أن المسؤولين اللبنانيين فوجئوا بهروب بيدس وأن مجلس إدارة “إنترا” كان عاجزا عن تحديد الفجوة المالية الذي سقط فيها البنك، وقد تم استدعاء أعضاء مجلس ادارته للإجتماع مع الرئيسين حلو واليافي، وتبين أنهم مثل “الأزواج المخدوعين” لا يعرفون شيئا عن حقيقة أوضاع مصرفهم ولا يدركون تحركات بيدس ولا أفعاله ولا يستطيعون تقديم ضمانات في حال تقرر تعويم البنك، والأخطر من كل ذلك أن عدم معرفة إدارة “إنترا” بعمق الأزمة وأفقها أخاف الحكومة اللبنانية أن تفضي محاولة التعويم إلى إفلاس البنك المركزي ومعه الدولة اللبنانية، علما أنه لم يكن قد مرّ على إنشاء مصرف لبنان سوى سنتين، وبالتحديد في نيسان/ابريل 1964.
ـ بيار إده رئيس جمعية المصارف، كان دعاه نقيب الصحافة زهير عسيران إلى حوار مع رؤساء تحرير الصحف اللبنانية في دار النقابة (“الحياة” ـ 1ـ 11 ـ 1966) فقال “إن بنك إنترا لم يبلغ المسؤولين في جمعية المصارف بحقيقة أوضاعه وأن الجمعية لم تكن على علم بهذه الأوضاع أكثر مما كان يعلم عنها أي مواطن لبناني عادي”.
بعد هذا الإستعراض لسقوط “إنترا” بسبب مغامرات توسعة أعماله وتلاعبات مؤسسه ينتقل الحديث تلقائيا إلى كيفية تعاطي الدولة اللبنانية مع تلك الكارثة كما وصفتها وسائل الإعلام في حينه:
في الثالث والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1966، قالت صحيفة “الحياة” في الصفحة الأولى “بعد تحقيق طال شهرين ادعت النيابة العامة بشخص ممثلها منيف عويدات على جميع أعضاء مجلس ادارة بنك إنترا بجرم الإفلاس الإحتيالي والتقصيري، وقد طلبت النيابة العامة من مجلس النواب رفع الحصانة عن النائبين نجيب صالحة ومنير أبو فاضل بصفة الأول عضوا سابقا في مجلس الإدارة ورئيسا جديدا له وبصفة الثاني عضوا سابقا في المجلس المذكور”، ومجلس ادارة بنك “إنترا” كان مؤلفا من نجيب صالحة رئيسا، يوسف بيدس، محمد عبد الرحمن، كمال أدهم، نجيب علم الدين، بولس فرح، كامل أبو زيد، فرنان خوري، شفيقة دياب، ابراهيم عرب، اسعد البرط، سليمان الحمد، أعضاء.
وفي الصفحة الثالثة من عدد “الحياة” نفسه، أن “رئيس محكمة تجارة بيروت عبد الباسط غندور أعطى مهلة جديدة مدتها أسبوع واحد لوكلاء بنك إنترا لكي يقدموا ملاحظاتهم على التقرير الجزائي الذي يشرح مسؤولية رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بشأن الأسباب التي أدت إلى توقف البنك عن الدفع”.
وأما نصوص المواد التي قررت النيابة العامة محاكمة اعضاء مجلس إدارة “إنترا” بموجبها فأبرزها المادتان 689 و690 من قانون العقوبات وتنصان على ما يلي “يُعتبر مفلسا محتالا ويعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة حتى سبع سنوات كل تاجر مفلس أخفى دفاتره” أو “إذا استهلك مبالغ باهظة في عمليات الحظ او في مضاربات وهمية على النقد أو البضاعة، وأقدم بعد التوقف عن الدفع وفي سبيل تأخير الإفلاس على شراء بضائع لبيعها بأقل من ثمنها أو عقد للغاية نفسها قروضا أو حوّل مستندات أو توسل بطرق اخرى بعيدة للحصول على المال”.
ونشرت “الحياة” في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1966 مشروع قانون ناقشه المجلس النيابي لضمان الودائع وخصوصا الصغيرة منها، ونص المشروع على التالي:
“يُجاز للحكومة ان تدفع مبلغا أقصاه 50 مليون ليرة يؤخذ سلفة من الخزينة او مصرف لبنان لحساب الدولة، وتدفع الحكومة هذا المبلغ لأصحاب الودائع والإدخار الذين لا تتجاوز حساباتهم ألف ليرة، وعلى ان تدفع كاملة لأصحابها وبالأولوية قيمة الحسابات الدائنة التي لا تتجاوز خمسة آلاف ليرة”.
إثر انهيار “إنترا” تحركت النيابة العامة على وجه السرعة وادعت على مجلس إدارته وطلبت رفع الحصانة النيابية عن نائبين لعضوية سابقة ولاحقة في مجلس إدارة “إنترا”، في حين أنه بعد ثلاث سنوات لبنانية مرّة وحنظلية وعلقمية لم يحدث ان حراكاً قضائياً رفع البطاقة الحمراء بإتجاه مفتر أو مشبوه أو ضالع
وبحسب رينيه معوض (رئيس الجمهورية المنتخب لاحقاً) الذي كان يرأس لجنة المال النيابية “المشروع يقضي بأن تُدفع الودائع التي تبلغ قيمتها دون خمسة آلاف ليرة كاملة، والودائع بين خمسة آلاف و12 ألف ليرة على أسس النسبة بين رصيد ديونهم ورصيد مبلغ الخمسين مليون ليرة”، وأقرت الحكومة المشروع بمرسوم وأحالته على الجريدة الرسمية (“الحياة” ـ 17 ـ 11ـ 1966) أي بعد شهر واحد من انفجار أزمة “بنك إنترا”.
وأهمية هذا المشروع أن الودائع الصغيرة تراوحت كالتالي: 24531 وديعة حتى خمسة آلاف ليرة، و2948 وديعة بين خمسة آلاف وعشرة آلاف ليرة، و1255 وديعة بين 10 آلاف و15 ألف ليرة.
وفي سياق متصل، أشارت جريدة “الجهاد” الفلسطينية ـ الأردنية (21ـ 1 ـ 1967) إلى قرار محكمة الإستئناف اللبنانية الذي قضى “بفرض حجز احتياطي على أموال وممتلكات مجلس إدارة بنك إنترا والأشخاص الذين كانوا يمتلكون صلاحيات الترفيع ومراقبي الحسابات والأشخاص الذين تولوا إدارة البنك خلال الأشهر الثمانية عشر التي سبقت إعلان البنك التوقف عن الدفع”.
ما الخلاصة؟
هذه المقارنات تفي وتكفي:
ـ بعد شهر واحد من انفجار أزمة “بنك إنترا” اتخذت السلطات اللبنانية قرارا بحماية صغار المودعين، وهو قرار أول ما تتخذه سلطات الدول التي تضربها عواصف مالية، وهذا ما جرى في قبرص وإيسلندا واليونان بعد أزماتها المعروفة منذ أكثر من عقد، بينما وبعد ثلاث سنوات من الكارثة اللبنانية يستمر نهب المودعين الصغار وحماية الناهبين الكبار.
ـ إثر انهيار “إنترا” تحركت النيابة العامة على وجه السرعة وادعت على مجلس إدارته وطلبت رفع الحصانة النيابية عن نائبين لعضوية سابقة ولاحقة في مجلس إدارة “إنترا”، في حين أنه بعد ثلاث سنوات لبنانية مرّة وحنظلية وعلقمية لم يحدث ان حراكاً قضائياً رفع البطاقة الحمراء بإتجاه مفتر أو مشبوه أو ضالع.
ذاك هو الفارق بين الأمس واليوم.
فارق بوسع الزمان واتساعه، وفارق بين من كان يعتبر أن المجتمع بحاجة إلى دولة ولو بحدودها الدنيا، وبين من لا يقيم للدولة وللمجتمع أي اعتبار.
خلجة أخيرة؛ ما يشبه التصوف:
إذا أردت رؤية السماء اسجد على الأرض/ وإذا أردت رؤية الناس انظر إلى السماء.
أهل السياسة عندنا ماذا يريدون؟