هل الضربة النووية الروسية.. “أهون الشرور”؟

هل آن أوان المفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية روسية أوكرانية، أم أنه آن أوان الضربة الروسية ذات الطابع النووي التكتيكي؟

التساؤل ليس جملة بلاغية ولا يقوم على مجرّد افتراض. فالجميع في مأزق. الروس والأميركيون والأوروبيون وحتى العالم أجمع. والخشية من حرب نووية شاملة لا تُبقي ولا تذر ليست اجتهاداً ولا تهويلاً، بل هو سيناريو مطروح، سواء بالصمت أو الهمس أو العلن.

ولا بد من التذكير أن الحديث عن خيار نووي باتت مقدّماته العملية جاهزة وبالإمكان لمسها بسهولة. فالجيش الروسي يعاني مرارات باتت معروفة ومشهودة في ميادين المعارك الضارية التي تتواصل من دون مقدرة على الحسم في شرق وجنوب أوكرانيا، وقد جاء نسف جسر القرم ليفاقمها. حتى الأقاليم التي أعلنت السلطات الروسية السيطرة عليها وعقدت فيها الاستفتاءات وانتهت بإعلان ضمها لـ”الوطن الأم”، لم تصبح صافية لروسيا ولا باتت خالية من رافضي موسكو بل ثمة خسارات متتالية فيها. وربما كان القرار بضمّها من أوضح البوادر العملية لقرب استخدام السلاح النووي الروسي، وبخاصة إذا واصلت القوات الأوكرانية، المدعومة بفعالية من حلف الناتو، هجومها المضاد، وبالوتيرة الحالية، بما يشكّل تهديداً مباشراً للمناطق المنضمة حديثاً إلى الاتحاد الروسي، وربما للأراضي الروسية ذاتها.

بالمقابل، يتراجع جيش فلاديمير بوتين وقد تكبّد ويتكبّد خسائر لا يُستهان بها على مستوى المعنويات والرجال والعتاد، هذا بصرف الاهتمام عن البروباغندا الغربية التي زعمت تدمير أوكرانيا لفرقة الدبابات الرئيسة للجيش الروسي (كما نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية).

وهنا علينا ألا نتساذج إلى حدّ الاعتقاد بأن الفضل كلّه في نكوص الجيش الروسي يعود إلى فعالية قاذفات “هيمارس” النقطية الأميركية الذكية وما يشابهها من أسلحة. فقد علّمتنا الحكاية أن الفضل ليس للسيف بل قبله للزند الذي يضرب بالسيف.

على أي حال، وبعد هذه الأشهر الثمانية التي انقضت على دخول المصفحات الروسية أراضي الجارة اللدود، من الواضح أن ثمة تقصيراً روسياً فاضحاً في تحقيق الفوز الجليّ الموعود على أوكرانيا في هذه الحرب التقليدية المستمرة. وطالما الأمور تراوح بتثاقل على مستوى الهجوم الروسي، فالارتقاء إلى السلاح النووي سيكون الحل الوحيد المتبقي أمام بوتين. ولا يسع المتابع أن يتبنّى بسهولة مقولة أن الجيش الروسي يتراجع تكتيكياً ضمن خطة شاملة، بل ربما كانت استعادة الجيش الأوكراني لمعقل ليمان الرئيسي شمال مقاطعة دونيتسك (شرقي أوكرانيا)، وبعدها بلدتي أرخانهيلسكي وميروليوبيفكا الصغيرتين في منطقة خيرسون، نذيراً لتحوٌل استراتيجي كبير يمكن أن يُغير مجرى الحرب ويرسم بالتالي شبح الهزيمة (المستحيلة) أمام بوتين.

نشر موقع “ناشيونال إنترست” الأميركي، لنائب رئيس معهد “ليكسينغتون” دان جور أنه “ما لم يكفّ الغرب عن دعم الجيش الأوكراني بالسلاح، الذي كبّد الجيش الروسي خسائر كبيرة، فإن بوتين سينفذ ما هدد به مراراً وتكراراً، وهو استخدام السلاح النووي”

ولا يصح تجاهل جدارة قوات فولوديمير زيلنسكي ومهارتها الواضحة في سرعة استيعاب السلاح الغربي وحُسن استخدامه في هجوماتها المضادة على الأرض التي يعرفها الجيش الأوكراني والميليشيات المتعاونة معه، كذلك لا يمكن التغاضي عن واقع زعزعة سُمعة الجيش الروسي الذي لم يقدم أداءً قتالياً يتوافق مع المُتوقع من جيش “دولة عُظمى”، وقد سبق له أن ارتد في البداية عن العاصمة الأوكرانية “كييف” ثم انسحب في ما بعد من وسط البلاد وتعذّرت عليه السيطرة على خاركيف لينكفئ إلى محاولة السيطرة على مناطق في الشرق والجنوب.. حتى بلغ (مُكرهاً) مرحلة التهديد بالنووي، بعد أن شهدنا حالة من الفوضى العارمة رافقت قرار التعبئة العامة الجزئية، بدليل فرار مئات آلاف الروس إلى الدول المجاورة وبينهم كفاءات وأدمغة وكادرات كانت لتشكل أفضل سند للإقتصاد الروسي في هذه المرحلة بالذات.

ولعل التلويح الروسي باستخدام السلاح النووي هو ما شجّع زيلنسكي على مطالبة الناتو بشنّ ضربات وقائية ضد روسيا، عوضاً عن انتظار الضربات النووية الروسية. وكان من اللافت للإنتباه أن تقتصر ردّة الفعل الروسية على هذه الدعوة (النووية)، على تصريح أصلع للمتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف طالب فيه أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي ودول العالم، أن تولي اهتماما خاصا لكلمات زيلنسكي هذه.. كأنما هو يشكو إليها !

وهذا كلّه يوضح الأبعاد الحقيقية للمأزق الذي يعاني منه الجميع أمام خطر اللجوء إلى السلاح النووي، بما يجعل التفاوض مع بوتين “أهون الشرور”. فالرئيس الروسي يدرك تماماً أن هزيمته في أوكرانيا لن تعني أقل من انهيار الاتحاد الروسي، كما سبق أن جرى للاتحاد السوفياتي. وأمام هكذا احتمال لن يجد بوتين بديلاً عن شن ضربة (أو ضربات) نووية تُنهي جمهورية زيلنسكي، ولو كان ذلك تحت احتمال “عليّ وعلى أعدائي يا رب”!

لقد حاول بوتين إخضاع أوكرانيا، فإذا بها تُظهر عوداً صُلباً لم يمكن كسره حتى الآن؛ وسعى إلى إضعاف حلف شمال الأطلسي، فاستعاد الحلف “شبابه” وبات أكبر وأقوى من أي وقتٍ مضى. والأنكى من ذلك أنه (ربما) يكون اكتشف كما اكتشف متابعو وسائل الإعلام حول العالم، أن الجيش الروسي ليس متجانساً مع السمعة المميّزة التي يجري تناقلها عنه. والمعنى أنه يبدو كمن يُقاد برغم أنفه إلى هزيمة مدوّية لن يمكن الهروب منها بغير شنّ حرب نووية، ولو أنه يريدها تكتيكية محدودة.

إقرأ على موقع 180  قوى التغيير.. تمثلني

هذا بالضبط ما رآه موقع “ناشيونال إنترست” الأميركي، حين نشر لنائب رئيس معهد “ليكسينغتون” دان جور أنه “ما لم يكفّ الغرب عن دعم الجيش الأوكراني بالسلاح، الذي كبّد الجيش الروسي خسائر كبيرة، فإن بوتين سينفذ ما هدد به مراراً وتكراراً، وهو استخدام السلاح النووي”.

الخلاصة: إما نهاية مأسوية لدولة عُظمى، وإما خطوة مجنونة على درب قد تُفضي إلى نهاية العالم.

ربما يكون هذا الواقع هو ما دفع صحيفة “واشنطن بوست” إلى القول إن “التفاوض مع بوتين هو أفضل طريقة للخروج من المأزق”.

Print Friendly, PDF & Email
محمود محمد بري

كاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  روسيا تستثمر "الإنقلاب الأميركي" على الخليج.. سورياً