ياماجوشي قصة تتجدد من هيروشيما إلى أوكرانيا!

رحل تسوتومو ياماجوشى عن عالمنا عام 2009 عن 93 عاما مصابا بمرض السرطان، بعد أن نال اعترافا رسميا من الحكومة اليابانية بأنه «نيجيو هيباكوشا» (شخص تعرض للقنبلة النووية مرتين)، ليصبح الياباني الوحيد الذى يحمل هذا الاعتراف الرسمى، بينما حصل آخرون على لقب «هيباكوشا» بسبب نجاتهم من أحد الانفجارين النوويين اللذين تعرضت لهما اليابان فى نهاية الحرب العالمية الثانية.

ولد وعمل وعاش ياماجوشى معظم حياته فى مدينة ناجازاكى، وبعد دراسته الهندسة عمل فى أحد مصانع شركة ميتسوبيشى الصناعية بالمدينة. وفى ربيع عام 1945 انتدب للعمل لثلاثة أشهر فى أحد مصانع الشركة بمدينة هيروشيما التى تبعد عدة ساعات بالقطار.
انتهت مهمة ياماجوشى يوم 6 أغسطس/آب واستعد لمغادرة المدينة عائدا لزوجته وعائلته. وقبل مغادرة المصنع ذهب لتوديع مديره وشكره. وأثناء اللقاء ألقيت أول قنبلة نووية فى التاريخ فى مركز مدينة هيروشيما الذى يبعد فقط 3 كيلومترات من مصنع ميتسوبيشى. وسمع ياماجوشى أزير الطائرة الأمريكية وسمع انفجارا ضخما، وفقد الوعى فورا، ثم وجد نفسه فى أحد الملاجئ المنتشرة فى المدنية مصابا بحروق كبيرة، إضافة لفقدانه النظر والسمع لساعات. وفى اليوم التالى صمم ياماجوشى على السفر لنجازاكى ليكون قريبا من عائلته، واستطاع الوصول لمحطة القطارات التى كانت لا تزال تعمل.
ونتج عن هجوم هيروشيما مقتل 80 ألف شخص على الفور، و140 ألفا لاحقا (نصف سكان المدينة) وتدمير نصف مبانيها.

***

على الجانب الآخر من المحيط الهادئ، وفى أول خطاب عقب إلقاء القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما يوم 6 أغسطس/آب 1945، قال الرئيس الأمريكى هارى ترومان «إنها قنبلة ذرية، إنها تسخير للقوة الأساسية للكون. القوة التى تستمد منها الشمس قوتها أطلقناها ضد أولئك الذين جلبوا الحرب إلى الشرق الأقصى».
وأضاف ترومان «إذا لم يقبلوا شروطنا ويستسلموا فورا، فعليهم أن يتوقعوا سيلا من الدمار يأتيهم من الجو ليس له مثيل فى هذه الأرض».

***

خلال خطاب ألقاه قبل أسبوعين، قال الرئيس بوتين إن الولايات المتحدة خلقت «سابقة» باستخدام الأسلحة النووية ضد اليابان فى نهاية الحرب العالمية الثانية ــ وهو تعليق لم يكن ليمر مرور الكرام من قبل الحكومات الغربية، خاصة وأن بوتين هدد باستخدام كل الوسائل المتاحة له لحماية الأراضى الروسية التى اتسعت لتضم إقليم الدونباس فى شرق أوكرانيا

وصل ياماجوشى فى حالة صحية سيئة لعائلته، ولم يكن أغلب الشعب اليابانى يعرف ما جرى على وجه التحديد، خاصة أنهم كانوا فى وسط الحرب، واعتادوا على الغارات الجوية الأمريكية.
وفى صباح يوم 9 أغسطس/آب، طلب مدير مصنعه اللقاء به، وهو ما حدث. واستمع المدير لرواية ياماجوشى حول الانفجار الضخم وجثث الضحايا التى ملأت النهر ورآها بعينيه، وعن حجم الدمار ولم يصدقه المدير.
قال المدير له ما معناه «إنك مهندس متعلم، لا يمكن أن تكون قنبلة واحدة مسئولة عن كل هذا الدمار، أتصور أن الأمريكيين أطلقوا الكثير من القنابل التى سببت كل ذلك الدمار».
وقبل انتهاء اللقاء، سمع الرجلان انفجارا ضخما، كان الهجوم النووى الثانى فى التاريخ إذ ألقت الولايات المتحدة قنبلتها الثانية على مركز مدينة نجازاكى فى جنوب اليابان. ونجا المهندس ياماجوشى، للمرة الثانية، وتجددت إصاباته وزادت الحروق وتضاعفت نسبة الغبار الذرى الذى استنشقه ودخل جسمه. وأصيب ياماجوشى بفقدان حاستى السمع والنظر لفترات مختلفة قبل أن يتحسن ويستعيد السمع والبصيرة لاحقا.
قتلت قنبلة مدينة نجازاكى 40 ألف شخص على الفور و70 ألفا لاحقا، إضافة لتدمير أكثر من نصف مبانيها. ونصح الأطباء ياماجوتشى بعدم إنجاب أطفال حيث سيكونون فى الأغلب مشوهين بما بقى فى جسده من آثار التعرض للإشعاع النووى مرتين خلال ثلاثة أيام.
لكن ياماجوشى لم يلتزم بنصائح الأطباء وأنجب فتاتين كانتا فى صحة جيدة وتوفيتا فى السبعينيات من عمرهما. وعاش المهندس ياماجوشى بقية حياته بعد انتهاء الحرب مناصرا لنزع السلاح النووى ومحذرا من تبعات أى هجوم نووى بعدما كان هو «شاهدا وحيدا فى التاريخ على هجومين نوويين».
ويبدو أن جهوده نجحت حيث لم يعرف العالم أى هجمات بالأسلحة النووية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أى منذ 77 عاما كاملة.

***

لم يقترب العالم من استخدام جديد للأسلحة النووية إلا خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، ولاحقا خلال أزمة أوكرانيا الجارية. مما دفع الرئيس الأمريكى جو بايدن إلى القول قبل أيام «إن الخطر النووى هو الأعلى منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962».
لم يبالغ بايدن فى تقديره، فقد كرر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أنه لا يمزح عندما يشير إلى إمكانية استخدام أسلحة نووية، وأكد بايدن ذلك بقوله إن بوتين «لم يكن يمزح عندما تحدث عن استخدام أسلحة نووية تكتيكية بعد تعرضه لانتكاسات فى أوكرانيا».
ترجع أزمة الصواريخ الكوبية إلى اكتشاف الولايات المتحدة محاولة نقل الاتحاد السوفيتى صواريخ نووية إلى جزيرة كوبا الواقعة على بعد 90 ميلا من سواحل ولاية فلوريدا الأمريكية. واستمرت الأزمة 13 يوما فى أكتوبر/تشرين الاول 1962 واقتربت واشنطن وموسكو من مسار تصادمى مرادف لخطر الإبادة النووية للبشر والأرض كما نعرفها.
ورأت واشنطن أن الأزمة سببها إخلال الزعيم السوفيتى نيكيتا خروتشوف بوعده ونصب أسلحة نووية فى كوبا ــ مما وضع واشنطن العاصمة ومدينة نيويورك ضمن نطاق الصواريخ ــ واختبر الرئيس الأمريكى الجديد جون كينيدى. إلا أن السوفييت يرون فى خطوتهم ردا على تحريك حلف الناتو الكثير من أسلحته المدمرة لداخل الأراضى التركية على مقربة من الأراضى السوفيتية.
وفكر كينيدى فى شن هجوم واسع النطاق على كوبا، لكنه قرر فرض حصار بحرى بعدم السماح بمرور أى إمدادات عسكرية، مما أجبر السوفييت على تفكيك الصواريخ وإعادتها إلى روسيا فى النهاية.

إقرأ على موقع 180  بوتين وأردوغان رفيقا الطرق.. المتوازية

***

خلال خطاب ألقاه قبل أسبوعين، قال الرئيس بوتين إن الولايات المتحدة خلقت «سابقة» باستخدام الأسلحة النووية ضد اليابان فى نهاية الحرب العالمية الثانية ــ وهو تعليق لم يكن ليمر مرور الكرام من قبل الحكومات الغربية، خاصة وأن بوتين هدد باستخدام كل الوسائل المتاحة له لحماية الأراضى الروسية التى اتسعت لتضم إقليم الدونباس فى شرق أوكرانيا.
بعد قمتهما المشتركة فى جنيف فى يونيو/حزيران 2021، خرج بيان أمريكى روسى مشترك جاء فيه «لا يمكن الانتصار فى حرب نووية ويجب ألا تخاض أبدا»، ولا نعلم إذا كان الرئيس الروسى سيلتزم بذلك أم يرى نفسه مضطرا لاستخدام السلاح النووى التكتيكى (محدود الخسائر) لردع الولايات المتحدة عن استمرار دعمها العسكرى الواسع لأوكرانيا، فى وقت لا يعرف أحد كيف يمكن أن يأتى الرد الأمريكى على مثل هذه الخطوة.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الإسلامُ روحيةٌ.. وليس حروفاً!