هواجس “الترسيم”.. ولـ”السيد” أن يُجيب!

مع إنجاز ترسيم الحدود البحرية، ينفتح على اتساعه الجدل الذي لم يتوقف أساساً حول مستقبل سلاح حزب الله، وربما مستقبل الحزب في شخصيته السلاحية - الدولتية الراهنة، بمعنى مستقبل فعل المقاومة ذاته كحاجة وضرورة، وهو جدلٌ لا قِبَل لأي قوة أو طرف في خنقه، وهو في سبيله إلى أن يستمر ويتصاعد.

الجميع تابع وسمع كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مؤخراً من أنه “عندما يعلن رئيس الجمهورية الموقف الرسمي اللبناني الموافق والمؤيد للاتفاق (على الترسيم)، تكون الأمور قد أُنجزت بالنسبة للمقاومة”.

والسؤال الأساس ينطلق من هذا التفصيل بالذات: ماذا يعني “السيد” تماماً بقوله إن “الأمور تكون قد أُنجزت بالنسبة للمقاومة”؟

الواضح أن مقصده أن دور المقاومة في هذا التفصيل يكون قد انتهى. هذا ما تقوله البديهة، ولا يتضمن معنى العبارة شيئاً عن مستقبل المقاومة كحاجة وضرورة لا بدّ منها. وهذا ما يجب أن يكون واضحاً للجميع، لكن..

قبل المسارعة إلى تكبير الحجر جزافاً على الطريقة اللبنانية، الأجدر الإشارة إلى أن الجميع على علم بأن المقاومة لم تنطلق بهدف التصدي لمسألة “ترسيم الحدود”، بل إن هذا الترسيم ذاته هو مسألة استجدّت ولم تكن في الحسبان لحظة انطلاق المقاومة في الأساس. ومن هنا يُطل السؤال الأكثر جدّية: لماذا ولأي هدف – أهداف انطلقت “المقاومة الإسلامية ــ حزب الله” أساساً (كما ورد في النص الحرفي الكامل لـ”رسالة حزب الله إلى المستضعفين”)، وما الذي تهدف إلى إنجازه كي “ترتاح” وتتخلى عن وضعها كحركة مسلحة، وتعود مجرّد كيان حزبي سياسي مثل أي كيان آخر قائم في البلد، من “النجادة” ــ إن كانت ما تزال قائمة ــ حتى “أعرق” الأحزاب السياسية بما فيها “الممولة والمدعومة”؟

المطلوب هنا أجوبة حقيقية مباشرة وخالية من زهم الديماغوجيا وبيزنطية الردح والمناكدة. وهذا يتطلّب قدراً من المسؤولية والموضوعية والجدية والصراحة من العسير توفرها في عالم السياسة عموماً إلا بصعوبة، وفي السياسة اللبنانية على وجه الخصوص.

إن إنقاذ الثروة الوطنية من غياهب البحر ومن بين أنياب عدو لئيم، لا يُنهي المشوار، بل يُحتّم مواصلة البذل والجهد والتضحيات لحماية هذا الإنجاز غير المسبوق في مشرق العالم ومغربه

فماذا تريد المقاومة على وجه التحديد؟

هل تتوخى النضال (بعد) لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا (كما يقول النشيد المناسباتي)، لتراكم ذلك فوق كل الإنجازات الكبيرة التي حققتها بالتضحيات والجهد والسهر والدم والمال والمواظبة، منذ الرصاصة الأولى ومروراً بكل محطات إنتصاراتها، أم أن ذلك ليس كل شيء في “أجندتها”؟

هل تنوي الاندفاع لاستعادة القدس من الأسر وتحرير الوطن الفلسطيني السليب من النهر إلى البحر، أم أن ذلك سيبقى فقط من ضمن أدبياتها الفكرية، فلا تسعى لتحلّ محل أهل الدار أنفسهم في ميادين النضال والمواجهة، وهم الأدرى بمسؤوليتهم وبقضيتهم وشِعابها؟ وهل أن السقف الكلامي والشعاراتي المرتفع سيبقى مخصصاً للاستهلاك فحسب، بينما تحتفظ المقاومة لنفسها بسقف عملي وجدّي أكثر تحديداً، من دون أن يكون أقل طموحاً بالضرورة؟

ثم، من جهة ثالثة، ما هي حقيقة العمليات على اختلافها التي أوصلت إلى الاتفاق مع “إسرائيل” على الترسيم؟ وهل انطوت هذه العمليات أو تنطوي على شبه اعتراف ضمني بدولة العدو، بخاصة وأن مفاوضات طويلة وشاقة وغير مباشرة جرت مع هذا العدو وعبر وسيط أميركي سبق له، وهو الصهيوني المعروف بأنه خدم في جيش العدو، فضلاً عن التوصل في النهاية إلى تجاور توقيع الدولة اللبنانية مع التوقيع الإسرائيلي، على ذات ورقة الاتفاق؟

إن تجاوز قيادة الحزب لهذه الوقائع والسكوت على حصولها كان تضحية كبيرة، وتستحق جزيل الشكر على غضّها الطرف عن بعض محظوراتها التي أباحتها لنفسها بحكم الضرورات الوطنية التي تضغط على بلدها وناسها، فارتأت الانخراط عن بُعد وبشكل غير مباشر في ملف التفاوض، وأعلنت انصياعها لما تقرره الدولة اللبنانية في هذا الشأن، وكل ذلك بأمل التخفيف ما أمكن من ويلات الخانقة الاقتصادية التي تمسك برقاب البلد والناس.

لكن؛ ألم يصبح من واجب حزب الله اليوم النزول إلى الناس والتحدث بوضوح وصراحة ومسؤولية في الموضوع، والإجابة عن هذا النوع من التساؤلات، بدلاً من ترك الصندوق مُقفلاً على ما تلوكه الألسن حوله؟

و تبقى ملاحظتان على شكل تمنيَين:

الأول، ربطاً بالترسيم، على حزب الله، بإحدى طرائقه المبتكرة التي لا يتقنها مثله أحد، معالجة إشكالية أنه، وهو المقاومة العفيفة الشريفة النظيفة، عملت من حيث لا تقصد على تعويم المجموعة الرسمية الحاكمة والتي من شبه المستحيل أن تجد في البلد من لا يطلب رأساً من رؤوسها على الأقل. ليس أن المطلوب منه إزاحتها، لأن هذا دور الناس، بل عدم التبرّع بتقديم الحماية لها، وهي المرتكبة بحق الوطن والمواطن بما لا يقبّل أيّ شك على الإطلاق.

والتمني الثاني، وهو متصل بالأول، أن يعكس الحزب دوران محركات أدائه الداخلي بعد حطّ إنجاز الترسيم على أرض الواقع (كما تفعل الطائرات حين تهبط على المدرج)، فيُغيّر أسلوب تعامله مع المسؤولين الرسميين، ليمنعهم بالطرق الفاعلة التي لا يجهلها، عن مواصلة سلب ونهب ثروة اللبنانيين التي فتح بدمائه أبوابها وأبواب الخلاص أمام وطن جعلوه يترنح في شدق الهاوية. وما يعرفه ناس البلد عن هذا العار، على كثرته، لا يوازي نقطة في بحر ما تحصّل من معلومات بهذا الشأن لدى دوائر الحزب المعنية.

إقرأ على موقع 180  إتساع الهوة بين الجمهورية.. والإمبراطورية الأميركية

إن إنقاذ الثروة الوطنية من غياهب البحر ومن بين أنياب عدو لئيم، لا يُنهي المشوار، بل يُحتّم مواصلة البذل والجهد والتضحيات لحماية هذا الإنجاز غير المسبوق في مشرق العالم ومغربه.

وفي حال نكوص الحزب عن متابعة هذا الدرب، فإن الذين نهبوا لبنان على امتداد عقود سوداء، وانتزعوا أكباد مدّخراتنا في البنوك، وأجبرونا على شراء محروقاتهم وكهرباء مولداتهم وطحين اللقمة وماء الشرب وكل شيء.. من دون أن يخافوا فينا الله، ليس غير حزب الله من يمكن أن يُخيفهم وينقذنا منهم، بمسؤوليته أمام الله.

أو إن هذا هو “العشم” والمُتمنى.

Print Friendly, PDF & Email
محمود محمد بري

كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "الأزمات الدولية": الحد من أضرار الفراغ الرئاسي بإطلاق يد حكومة ميقاتي