منذ اليوم الأول لتكليف سعد الحريري، لم يكن ميشال عون أو جبران باسيل راضيين عن هذا الخيار. هما يفضّلان آخرين عليه، وبينهم من كان أبدى جهوزية للذهاب أبعد من حسان دياب، أقله بحفظ منظومة مصالح معينة. في النهاية، كان لا بد مما ليس مرغوباً به. صارت باريس مربط خيل الحريري، وهو يمثل مبادرتها ولا يستطيع العهد الخروج منها أو محاربتها بطريقة مكشوفة، سواء قبل فرض العقوبات على رئيس التيار الحر أو بعدها.
لم يكن ثنائي حزب الله وحركة أمل يخفي رغبته بعودة الحريري منذ إستقالته في خريف العام الماضي، أما وأن الرجل قد قرر أن “يُضحي”، فقد آلت إلى غيره، ولو أنها لم تدم طويلاً له كما كان يأمل هذا الغير، لعل وعسى تصريف الأعمال يعوّض ما فات أو ما سيأتي!
هنا جوهر الخلاف بين “الثنائي” والعهد (باسيل ضمناً). يكون الحريري رئيساً للحكومة أو لا يكون. بالنسبة إلى رئيس التيار الوطني الحر، ثمة فرصة موجودة ولكن بشروط التفاهم الرئاسي الذي أبرم في العام 2016، برعاية رجل الأعمال المتعدد الجنسيات علاء الخواجة، وليس على قاعدة تحالف رباعي جديد إقصائي يتم نسجه في الظلام.
في المقابل، ليس وارداً في حسابات الحريري، إعادة إستنساخ تفاهم العام 2016 الرئاسي، أقله حتى الآن. لذلك، هذه المرة، كان تفاهمه حكومياً مع “الثنائي” سريعاً وسلساً، وذلك غداة التكليف مباشرة. قرار التسهيل كان واضحاً. للمرة الأولى لا يربط حزب الله موقفه من التأليف بموقف اي طرف آخر. عند نبيه بري، كانت المسألة محسومة. إقتصر الأمر على تثبيت أولي للحقائب التي ستسند للوزراء الشيعة الأربعة: المال، الأشغال، العمل، التنمية الإدارية، السياحة أو ما يوازيها. إحتفظ “الثنائي” بحق التسمية إلى وقت لاحق. ما أوردته “النهار” عن رئيس مجلس النواب، اليوم (الإثنين) قطع دابر الشك. لقد سلمت حركة أمل بواسطة المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل إلى الرئيس المكلف أكثر من عشرين إسماً مرشحين للتوزير من الإختصاصيين غير الحركيين. هذه الأسماء معظمها (وتحديداً المرشحين لوزارة المال) كانت تحظى بمقبولية الفرنسيين في مرحلة تكليف السفير مصطفى أديب. بلغ التسهيل حدود إبلاغ الحريري: هذه الأسماء يمكنك أن تأخذ فيها ويمكنك أن تقترح غيرها. إما يكون لدينا حق “الفيتو” على ما تقترحه أنت أو يكون لديك حق “الفيتو” على ما نقدترحه عليك من أسماء.
صحيح أن حزب الله لم يربط تفاهمه بموقف اي طرف آخر، لكنه نصح ـ كما بري ـ الرئيس المكلف بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، على إعتماد المعايير نفسها التي إعتمدها مع “الثنائي”، فيصار إلى توزيع الحقائب مسيحيا ومن ثم تعتمد الآلية نفسها على صعيد الأسماء المسيحية
ما جرى على خط عين التينة ـ بيت الوسط، لم ينسحب على حزب الله. قال الحزب إنه لن يعقد مهام الرئيس المكلف بل سيقدم كل التسهيلات المطلوبة منه، سواء بالأسماء، أم بالنسبة إلى الحقائب وتحديدا الحقيبة الخدماتية المقترحة، فإذا تعقدت أمور التأليف، يمكنه التساهل لمصلحة أية حقيبة خدماتية توازي الأشغال أهمية لكنها لا تثير حساسية الخارج ربطاً بمشاريع التمويل الدولية، سواء من ضمن رزمة “سيدر” أو غيرها.
صحيح أن حزب الله لم يربط تفاهمه بموقف اي طرف آخر، لكنه نصح ـ كما بري ـ الرئيس المكلف بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، على إعتماد المعايير نفسها التي إعتمدها مع “الثنائي”، فيصار إلى توزيع الحقائب مسيحيا ومن ثم تعتمد الآلية نفسها على صعيد الأسماء المسيحية (يستمر رئيس الجمهورية بالتسمية حتى يتفاهم عليها مع الرئيس المكلف أو العكس).
هذه المعطيات وما رافقها أيضاً من تفاهم بين الحريري وكل من وليد جنبلاط (حقيبة واحدة للدروز ضمن صيغة حكومة الـ 18) وسليمان فرنجية (حقيبتان)، جعلت باسيل متيقناً أن هناك محاولة لصياغة تحالف رباعي جديد، جوهره عزل التيار الحر وأيضاً القوات اللبنانية، وجاءت مناقشات القانون الإنتخابي، لتصب في الخانة نفسها، أي إقصاء الحزبين الأكثر تمثيلاً مسيحياً لمصلحة أحزاب وشخصيات مسيحية أكثر إستقلالية (نموذج تسمية الحريري مسيحياً من ثلث النواب المسيحيين من دون القوات والتيار وبرغم إستقالة نواب مستقيلين كان من الممكن أن يمنحوا أصواتهم أيضاً للحريري). لذلك، قررا التمسك بالقانون الإنتخابي الحالي راهناً.
كانت المشاورات الحكومية جامدة سياسياً، إلى أن حصل تواصل في الساعات الثماني والأربعين الماضية. اصر “الثنائي” على الإكتفاء بما تم تثبيته حتى الآن، ورفض الأخذ والرد في الأسماء مع الرئيس المكلف، بعدما إستشعر رغبة حريرية بوضع تشكيلة مكتملة هي الأولى من نوعها في عهدة رئيس الجمهورية. ظلت المعادلة ثابتة: المطلوب إعتماد معيار واحد في توزيع الحقائب وتسمية الوزراء وأن يسري على جميع مكونات الحكومة من دون إستثناء.
بدا أن الحريري أحرج فرنسياً. هم يضغطون لأجل تأليف الحكومة وهم يستشعرون أن الجميع، وخاصة الرئيس المكلف، قرروا الإنتظار إلى ما بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، مخافة دعسة ناقصة تؤدي إلى فرض عقوبات أميركية في اللحظة الأخيرة على الحريري أو أحد رموز تياره أو بيئته السياسية.. والذرائع موجودة وأبرزها تركه حزب الله يسمي وزيريه.
حتى أن الفرنسيين أعطوا سلسلة إشارات سلبية أعقبت إنتهاء مهمة موفدهم باتريك دوريل في بيروت. أبلغ قصر الأليزيه الأخير أن يتنحى مؤقتاً عن ملف لبنان وأن يتركه مؤقتاً بعهدة السفير بيار دوكان (مسؤول ملف سيدر ومؤتمر دعم لبنان إنسانياً)، وذلك لأجل التفرغ لزيارة الدولة التي ينوي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القيام بها إلى العاصمة الفرنسية قبل نهاية السنة الحالية.
الإشارة الثانية هي الدعوة هذا الأسبوع إلى مؤتمر تنسيق المساعدات الدولية الإنسانية للبنان، أي قبل تشكيل الحكومة، وهذا يعني أنهم باتوا متيقنين بصعوبة التأليف من جهة، وبوجوب ذهاب المساعدات إلى الشعب اللبناني من دون المرور عبر الجهاز الحكومي اللبناني من جهة ثانية، ولا بأس بتنسيق الحد الأدنى، الذي يفضل الفرنسيون أن تتولاه نائبة رئيس حكومة تصريف الأعمال وزيرة الدفاع زينة عكر.
تقييم أجوبة المصرف المركزي أظهر أنه قدّم أقل من 15% من الأجوبة الفعلية على الأسئلة المطروحة من “الفاريز”، وبالتالي، حتى لو إلتزم بتقديم أجوبته على أسئلة الشركة كلها بالطريقة ذاتها، فلن يقدم عملياً أكثر من ثلاثين بالمئة من الأجوبة!
أما الإشارة الفرنسية الثالثة، فقد تمثلت في الإيعاز إلى وفد المصرف المركزي الفرنسي بتجميد تعاونه مع مصرف لبنان المركزي في ضوء قرار شركة “ألفاريز أند مارسال” بالإنسحاب من مهمة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. وهنا يقول الفرنسيون إنهم حاولوا مراراً أن يشرحوا لحاكم مصرف لبنان المركزي أهمية إعتماد بعض القواعد المحاسبية، “لكنه أقفل الأبواب بوجهنا”، وهذا ما يفسر عدم إستقبال سلامة في باريس مؤخراً من قبل أي مسؤول مالي أو نقدي فرنسي، برغم كل ما قيل عن لقاءات عديدة أجراها هناك!
ويقول الفرنسيون إن المصرف المركزي أجاب عن 42% من أسئلة شركة التدقيق، لكن تقييم هذه الأجوبة أظهر أنه قدّم أقل من 15% من الأجوبة الفعلية على الأسئلة المطروحة، وبالتالي، حتى لو إلتزم بتقديم أجوبته على أسئلة الشركة كلها بالطريقة ذاتها، فلن يقدم عملياً أكثر من ثلاثين بالمئة من الأجوبة، هذا في أحسن الأحوال وأفضل النوايا!
ماذا بعد؟
هذا الإستياء الفرنسي دفع بالحريري إلى الإنتقال من مربع الإنتظار المفتوح إلى محاولة تحريك مياه حكومته الراكدة منذ أربعين يوماً. جس نبض بري وحزب الله. أتاه الجواب نفسه في اليومين الماضيين. قرر أن يستنجد برجل الأعمال علاء الخواجة. نقطة تقاطع مع جبران باسيل. هذا الرجل براغماتي جداً. متحرر من حسابات الإقليم والداخل. منظومة مصالحه لا يتفوق عليها إعتبار وطني أو قومي أو سياسي أو مذهبي. لا يملك رؤية حتى يحاول إقناع الحريري أو جبران باسيل بها. يكفي أن يجد مساحات مشتركة تؤسس لـ”البيزنس” وحدود دنيا في السياسة، حتى يتحرك من “برج الأحلام” بإتجاه دارة باسيل في الرابية، ثم يعود إلى سعد الحريري في آخر الليل، محاولاً نسج تفاهم الحد الأدنى بينهما.. أو أقله تذليل وهم “التحالف الرباعي”!
غير أن مشكلة علاء الخواجة هذه المرة تأتي من مطرح آخر. ما كان تفويضاً في العام 2016 صار اليوم مجرد “تطوع”. هناك من نصحه بأن ينضم إلى فرق المتطوعين مع “فرح العطاء” التي تزيل الركام وترمم ما تهدم بعد إنفجار مرفأ بيروت، في الجميزة ومار مخايل والكرنتنيا وزقاق البلاط، لكن الرجل، على ما يبدو، يفضل ترميم الصفقات.. وهذا ليس أوانها. لذلك، تبدو محاولات إنعاش التأليف بمقويات من هنا وهناك، مجرد تسالٍ خريفية.. فيما البلد يوشك على الإنفجار إجتماعياً.. هل تستطيع فرنسا بمؤتمرها هذا الأسبوع تدعيم أساسات البنيان المنهار، أم أن الأمور تجاوزت قدرة الجميع على منع الإرتطام الكبير؟ للبحث صلة.