في هذا الوقت، كان خوان الرياشي قد بلغ الرابعة عشرة من عمره، يذهب إلى المدرسة ويعود يومياً، ولا يسمع عن الحرب في لبنان سوى أن الفلسطينيين يستغلون “اتفاق القاهرة” ويُمعنون في تعريض سيادة لبنان للخطر.
نُتابع من كتاب خديجة أيوب، “احتمى عليّ بأشجار الزيتون ومنها زحف إلى أسفل الكرم وأطلق ما في جعبته صوب آليات العدو ثم واصل إطلاق النار وهو ينسحب إلى كرم “الصيرة”، بعدها رأيت الدخان يتصاعد من إحدى آليات العدو، وهنا تدخلت إحدى الطائرات التي كانت تحلّق في سماء عيناثا وأخذت تقصف المكان (…).
توقف القصف، هرعتُ صوب المكان فوجدت عليّ أيوب ممدداً على الأرض مصاباً بيده وكتفه ورقبته، ودماؤه قد روت التراب، ورفيقه الفلسطيني مصاباً برأسه (…). هنية وخديجة وحسن وحسين ينتظرون عودة والدهم لاصطحابهم إلى منزل عمتهم لتناول هريسة العاشر من محرّم كالمعتاد، وفجأةً علا صراخ إمرأة (…): قتلوا عليّ أيوب (ص82-83).
في الجهة المقابلة من مرآة لبنان، وبعد أربع سنوات على استشهاد عليّ، هاجم خوان الرياشي ورفاقه مخيم الكرنتينا التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية لتحريره ولبننته، بعدما أصرّ أبو أياد ان طريق فلسطين “تمرّ في جونيه”، مما جعل خوان يشعر بالمهانة ويتوقف عن التضامن مع قضية فلسطين لا بل ينقلب ضدها.. حتى الدم.
وفي ليلة من كانون الثاني/يناير 1976، وبينما كان خوان يرتاح عند مدخل مخيم الكرنتينا، خرج أحد المقاتلين المختبئين تحت الأرض (يُقال إنها إمرأة) وأردته بضربة فأسٍ على رأسه. صرخت أمّه كوليت حين شعرت أن شيئاً قد حصل لوحيدها: “خوان مات.. أنا انتهيت”!
“عليّ أيوب” كتابٌ جديد دعاني إلى أهمية التعلّق بتضحيات الآخر غير المختلف ولو اختلفت الأمكنة والظروف، وعليّ أيوب الشهيد العتيق علّمني أن نعمل معاً، كلنا معاً، لملء الأمكنة المتصحّرة العطشى إلى قطرة حبّ، لملئها بالكتب والمذكرات والتجارب بصدق وحقيقة وبما لها.. وما عليها
لا يجمع بين خوان وعليّ سوى الموت أو الشهادة، كلٌ من موقعه، اليوم تعرّفت على عليّ أيوب من خلال الحبر المذهّب المغمّس بالحب لابنته خديجة، فعلمتُ أنّ الرواية من الجهة المقابلة هي ذاتها من جهتي مع فارق من نواجه، ولماذا نواجه؟
لكنّ الأكيد أنَّ الأرض والعرض هما الدافعان في المكانَين، وإذا كان إختلاف الخصم أو العدو يمنع التقاء الساكنِين (بنون الجمع) في المكانَين إلا أنّ سكون الموت بعد الاستشهاد يجمع الساكنيَن (بنون المثنّى) في دار الخلد.
تربَّينا جميعاً على معاداة اسرائيل، إلا أنّ بعضنا واجهها ثمّ واجه الفلسطيني على أرضنا والأخير كان يواجهه ويواجهها، وحين دخل الإسرائيلي فرح به وله قومٌ واستاء منه آخر، وحين خرج الفلسطيني فرح له قومٌ وحزن آخر، وكذلك مع السوري وهكذا مع أي داخلٍ أو دخيل.
إلا أن الكتاب “المدرسة” الذي وضعته خديجة أيوب عن أبيها بين أيدينا، يفرض علينا إحياء الذكرى وإعمال الحب في الجرح والذاكرة والرواية؛ لأن الحبّ حتى الشغف وحده كفيل باحترام ما نختلف وتقديس الحياة فينا، لنكرّس المقدس في شهادة شهدائنا.
“عليّ أيوب” كتابٌ جديد دعاني إلى أهمية التعلّق بتضحيات الآخر غير المختلف ولو اختلفت الأمكنة والظروف، وعليّ أيوب الشهيد العتيق علّمني أن نعمل معاً، كلنا معاً، لملء الأمكنة المتصحّرة العطشى إلى قطرة حبّ، لملئها بالكتب والمذكرات والتجارب بصدق وحقيقة وبما لها.. وما عليها. وعند تبادل ثنايا الوجع، نُفكّك رموز الإنقسام حتى السلخ، ونفكُّ أسرَ وطنٍ أسيرٍ عالقٍ بين روايتين… وشهيدين!