

في لبنان، تتخذ هذه الظاهرة أبعادًا مركّبةً تتجاوز اللحظة الراهنة. فهي ليست وليدة الانهيار الماليّ منذ 2019، بل تمتد جذورها إلى ما قبل الحرب الأهلية (1975) حين كان غياب الدولة المركزية وتعدّد مصادر السلطة يتيحان للخارجين عن القانون أن يصبحوا أحيانًا ممثلين لمجتمعاتهم أو حماة لمصالحها. عبر العقود، تبدّلت أشكال التضامن: من تضامنٍ عشائريٍّ نفعيٍّ في الأطراف المهمّشة، إلى تضامنٍّ طائفيٍّ في مرحلة ما بعد الحرب، وصولًا إلى تضامنٍ رقميٍّ وأخلاقيٍّ يرفض العنف خارج إطار القانون في زمن الانهيار الشامل.
ولأجل فهم هذه التحولات، كان لا بدّ من مقاربات نظرية للإشكالية التي نحن بصددها. إذ يرى ميشيل فوكو (Foucault, 2007) أنّ السلطة في لحظات التصدّع لا تختفي بل تُعادُ صياغتها عبر قوىً متوازية، بينما يوضح بيير بورديو (Bourdieu, 1997) كيف يكتسب الخارجون عن القانون “رأسمالًا رمزيًا” حين يُنظَر إليهم كحَمَلةٍ لقيم جماعية. ويطوّر كلين وروسي (Klein & Rossi, 2023) هذه الأفكار عبر مفهوم “التضامن المشروط”، الذي يفسّر كيف يتحوّل التعاطف مع الخارجين عن القانون إلى وسيلةٍ لإعادة تعريف العدالة نفسها، لا لتبرير الخروج عليها.
ما قبل الحرب الأهلية.. وما بعدها
قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، كانت الدولة مركزية نسبيًا من الناحية الإدارية والأمنية، لكنها عانت من هشاشةٍ بنيوية تجلّت في التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، والاعتماد على نظام طائفي-زبائني يقيّد فعاليتها. في الأطراف المهمّشة، ظهرت ممارسات مثل التهريب أو أشكال محدودة من الحماية العشائرية، لكنها لم تكن بديلًا عن الدولة، بل ظلت تعمل ضمن حدودها أو بتواطؤ معها. هذا الوضع يمكن قراءته عبر مفهوم “اقتصاديات الرعاية” حسب مارتينيز – فاكيرو وآخرون (Martinez‑Vaquero, 2024) لكن في صيغة مختلفة: حيث تمنح المجتمعات المحلية شرعية نسبية لفاعلين غير رسميين، من دون أن يعني ذلك غياب الدولة أو تعدّد السلطات كما سيحدث لاحقًا أثناء الحرب.
ومع اندلاع الحرب الأهلية، توسعت ظاهرة التضامن لتشمل ميليشيات مسلّحة، أُعطيت شرعية سياسية واجتماعية، برغم خروجها عن القانون الرسمي. صارت هذه المجموعات سلطة موازية، تدير شؤون مناطقها وتفرض “قوانينها” الخاصة. يرى زانغ وآخرون (Zhang et al., 2022) أنّ هذه هي مرحلة “الشرعية المعاكسة”، حيث تتنافس مؤسّسات غير رسمية على فرض شرعيتها في غياب دولة مركزية.
بعد اتفاق الطائف (1989)، عاد شكلٌ من أشكال الدولة، لكنه ظل ضعيفًا ومقسّمًا بين قوى طائفية ومصالح محلّية. خرج الخارجون عن القانون من أدوارهم العسكرية إلى أدوار سياسية واقتصادية ضمن منظومة الزبائنية، وأصبح التضامن معهم تعبيرًا عن ولاءٍ سياسيٍّ وطائفيّ. يتوافق هذا مع تحليل بورديو (1997) حول “الرأسمال الرمزيّ”، حيث يصبح الخارج رمزًا لقوة جماعته.
ومع تصاعد أزمات لبنان السياسية والاقتصادية، نشأ تضامن جديد على منصات التواصل الاجتماعي، حيث بدأ الناس يرفضون “العدالة الانتقائية” ويريدون تطبيق القانون على الجميع دون استثناء. هذا النوع من التضامن، كما يشرح كلين وروسي (Klein &Rossi, 2023)، هو تضامن مشروط يدافع عن مبدأ العدالة وليس عن الأفراد الخارجين عن القانون.
ومع انهيار الدولة المالي وتفكّك مؤسّساتها، اتّسع نطاق التضامن إلى شكلٍ أخلاقيٍّ شامل يرفض القتل خارج نطاق القضاء، مهما كانت هوية الضحايا. بات التضامن تعبيرًا شعبيًا عن مطلب المحاكمة العادلة، وهو ما يعكس تحوّلًا نوعيًا في فهم العدالة.
التضامن مع الخارجين عن القانون في لبنان ليس ظاهرة ظرفية أو حادثة عابرة، بل هو بنية اجتماعية وتاريخية متواصلة تعكس هشاشة الدولة وتعدّد مصادر الشرعية. عبر تحوّلات تاريخية متعدّدة، انتقل التضامن من أدوار نفعيّة وزبائنيّة إلى تعبير أخلاقي عام يطالب بالعدالة والحق في المحاكمة العادلة. هذا التحوّل يؤكد ما ذهب إليه فوكو من أن السلطة لا تختفي بل تُعاد صياغتها
تحولات السلطة والعدالة
يتأسّس فهم ظاهرة التضامن مع الخارجين عن القانون في مجتمعات الانهيار على ثلاثة أُطر نظرية رئيسيّة تكشف عن تعقيد العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ الشرعية والسلطة؛ العدالة والرموز الاجتماعية.
أولًا؛ يبرز مفهوم الشرعية المتعددة عند ميشيل فوكو (Foucault, 2007)، الذي يرى أن السلطة ليست محصورة في الدولة بوصفها مؤسّسةٍ مركزيّةٍ فحسب، بل هي شبكة علاقاتٍ ديناميةٍ تتغيّر وتتوزّع بين فاعلين متعدّدين. في أوقات الانهيار السياسيّ والاقتصاديّ، لا تختفي السلطة، بل تنتقل أو تُعاد صياغتها عبر قوى متنازعة تنتج شرعيّات بديلة. وبهذا المعنى، يصبح الخارج عن القانون حاملًا لشرعية موازية في حال تمكّن من تعبئة حاضنته الاجتماعية أو توفير حمايةٍ بديلة، ما يفسّر ظهور تضامنٍ مجتمعيّ معه برغم ممارساته الخارجة عن القانون الرسمي.
ثانيًا؛ يُثري بيير بورديو (Bourdieu, 1997) هذه الرؤية بمفهوم الرأسمال الرمزيّ، الذي يسمح بفهم كيف يتحوّل الخارجون عن القانون من مجرّد أفراد منبوذين إلى رموز قوة تمثّل مصالح جماعية أوسع. في هذا السياق، لا يقتصر الأمر على الأفعال التي يرتكبها هؤلاء الأفراد، بل على القيمة الاجتماعية التي يكتسبونها عندما يُنظَرُ إليهم كممثلين لمجتمعاتٍ أو قوى سياسية أو طائفية، فيصبحون أشخاصًا يمتلكون شرعيةً ضمنية تمنحهم الدّعم والتضامن.
ثالثًا؛ يضيف التحليل المعاصر عبر أعمال كلاين وروسي (Klein & Rossi, 2023) بعدًا مهمًا خاصًا بالفضاء الرقمي، حيث يطرحان مفهوم “التضامن المشروط”. هذا المفهوم يوضح أن التعاطف أو الدعم الموجّه للخارجين عن القانون في بيئات متصدّعة غالبًا ما يكون تعبيرًا عن الدفاع عن مبدأ العدالة ورفض الاستبداد أو الانتقائية في تطبيق القانون، وليس تبريرًا للفعل الإجراميّ نفسه. الفضاء الرقمي بهذا الشكل، يُسرّع إعادة صياغة الخطاب الاجتماعيّ حول العدالة، ويشكّل مساحة لتداول مواقف نقدية تسعى إلى فرض معيارٍ قانونيٍّ موحّد، برغم هشاشة الدولة.
من كارتيلات المكسيك إلى شوارع بيروت
لفهم الظاهرة في لبنان ضمن إطار أوسع، لا بد من الانطلاق في رحلةٍ عبر خرائط أخرى تشهد على أشكالٍ مختلفةٍ من التضامن مع الخارجين عن القانون، حيث تتقاطع الحكايات برغم اختلاف الأزمنة والأمكنة.
في المكسيك، مثلًا، حيث تغيب الدولة عن مساحاتٍ شاسعةٍ من الأطراف، تملأ كارتيلات المخدِّرات الفراغ بمهارة لافتة للانتباه. فهي لا تكتفي بفرض سطوتها بالقوة، بل تقدّم خدمات أمنية واجتماعية، وتبني مدارس أحيانًا، وتوزّع الغذاء في أوقات الأزمات، ما يخلق لها شرعية نفعية في أعين مجتمعاتها المحلية. يشرح مارتينيز- فاكيرو وآخرون (2024) هذه الظاهرة بوصفها عملية تحوّل للجماعات الخارجة عن القانون إلى “دول مصغرة” تحظى بتأييدٍ شعبيّ، برغم ما ترتكبه من جرائم، لأن السكان يفضّلون نظامًا غير كامل على غياب النظام بالكامل.
وفي شمال إفريقيا، تتّخذ القصة شكلاً مختلفًا. هناك، كما تصف دراسات تازيولي (2024). لم يعد التضامن مرتبطًا بالقبول القسري بخدمات قوى موازية، بل أصبح فعلًا رقميًا مقاومًا. عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يُعبّر الناس عن رفضهم للعنف والقتل خارج القانون، ويعيدون صياغة معنى العدالة وسيادة القانون. الفضاء الرقميّ في هذه التجربة ليس مجرّد مساحةٍ للنقاش، بل مسرح لإنتاج خطابٍ جديدٍ يفضح السلطة القائمة ويمتحن شرعيتها.
أما في لبنان، فتبدو الحكاية أكثر تعقيدًا. التضامن مع الخارجين عن القانون مرّ بمراحل متعددة: في البداية كان تضامنًا نفعيًا أو عشائريًا، امتد ليصبح أداة ولاء طائفيّ خلال مرحلة ما بعد الحرب، ثم أخذ في العقدين الأخيرين شكلًا مركبًا أكثر، متأثرًا بتوسع الفضاء الرقمي. ومع الانهيار المالي والاجتماعي، لم يعد التضامن يعني تبرير الخروج عن القانون، بل تحوّل إلى تعبير مبدئي عن رفض الاستبداد القانونيّ الانتقائيّ، وعن توقٍ لعدالة أوسع تساوي بين الجميع أمام القانون.
هذه الرحلة من المكسيك إلى شمال إفريقيا وصولًا إلى بيروت تكشف أن التضامن مع الخارجين عن القانون ليس حكايةً واحدة، بل حكايات متوازية تتلاقى عند نقطة واحدة: البحث عن بديل، أي بديل، حين تفشل الدولة في أن تكون دولة.
في الخلاصة، التضامن مع الخارجين عن القانون في لبنان ليس ظاهرة ظرفية أو حادثة عابرة، بل هو بنية اجتماعية وتاريخية متواصلة تعكس هشاشة الدولة وتعدّد مصادر الشرعية. عبر تحوّلات تاريخية متعدّدة، انتقل التضامن من أدوار نفعيّة وزبائنيّة إلى تعبير أخلاقي عام يطالب بالعدالة والحق في المحاكمة العادلة. هذا التحوّل يؤكد ما ذهب إليه فوكو من أن السلطة لا تختفي بل تُعاد صياغتها، ويؤكد بورديو على أن الرأسمال الرمزي يمكن أن يكون أداة لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي.
المراجع
- بورديو، بيير (Bourdieu, P.). (1997). Outline of a Theory of Practice. Cambridge University Press.
- فوكو، ميشيل (Foucault, M.). (2007). Security, Territory, Population: Lectures at the Collège de France. Palgrave Macmillan.
- كلاين، أليكس (Klein, A.)، & روسي، ماركو (Rossi, M.). (2023). Conditional digital
- solidarities: Legal ethos in contested statehood. Journal of Digital Politics, 15(2), 89–110.
- مارتينيز‑فاكيرو، لويس (Martinez‑Vaquero, L.)، بريثويت، أندرو (Braithwaite, A.)، & ديسوزا، ميجان (D’Souza, M.). (2024). Evolutionary dynamics of support for criminal groups. arXiv preprint. https://arxiv.org/abs/2401.07869
- تازيولي، مايكل (Tazzioli, M.). (2024). Contesting extrajudicial execution: Social media and the rule of law in North Africa. Media and Society Review, 32(1), 44–62.
- زانغ، يانغ (Zhang, Y.)، سانتوس، كارلوس (Santos, C.)، & علي، طارق (Ali, T.). (2022). Oppositional legitimacy: Local sovereignty in stateless contexts. Global Journal of Sociology, 8(4), 201–218.