جاء النادل ليكرر على صديقى العبقرى «أستاذ جميل محتاجين مشاريب تانية؟» لم أستطع الانتظار أكثر فرددت «لا شكرا» ثم وجهت كلامى لـ«جميل» بأننا قد أنهينا كل قائمة المشروبات ولم يأتِ صديقك الذى تنتظره وأننى مضطرة أن أتركه بل إن عليه أن يعود هو الآخر للمنزل فى الجيزة وزحمة المواصلات ووو.. ضحك أستاذى وصديقى الجميل جميل عطيه إبراهيم، وقال “كانت فرصتك أن تلتقى بمن قلتِ عنه أنه رائع”. جاء رده ليثيرنى وتوقفت بعض الشىء لمعرفة من يكون وقبل أن يجيب كنت قد خمنت أنه بهاء طاهر ذاك الذى قرأت له «الحب فى المنفى» وكانت الرواية التى شدتنى للبحث عن كل رواياته بل محاولة الوصول إليه خاصة أننا كنا نعمل لنفس المنظمة التابعة للأمم المتحدة، إلا أن كل محاولاتى بلقائه باءت بكثير من الفشل، فى جنيف حيث كان يقيم قبل أن يتقاعد وحيث ناجى البحيرة وبجعها، أو فى القاهرة.
***
بشىء من الطفولية المتبقية بعد كل عوامل الزمن تشبثت بيدى جميل لأمنعه من الحركة قبل أن يعد بتحديد موعد مع الرائع بهاء طاهر، فكان أن وعد وهو يقهقه كعادته ويسخر من طفولتى المتأخرة!
***
مر وقت ربما طويل ليس بعدد الساعات بل بشغف اللقاء الذى لم يحدث، حتى أن التقيت بـ«بهاء طاهر» وبدأ سيل الحديث الذى لم يعرف الفواصل والنقاط بل القفز بين المراحل والفقرات وأنا أكثر من الأسئلة وهو ببهائه المعهود يجيب بكثير من اللطف والجمال.. بعدها كانت لى مع الأديب الرائع والمبدع بهاء طاهر لقاءات أحيانا فى ذاك المقهى بالزمالك على الناصية بالقرب من شقته وأخرى فى مقاهٍ أخرى.
***
فيما كان صلب الأحاديث عن الرواية والأدب، الآن كثير من جلساتنا معا شملت كيف يكون أديب مبدع مثله يعمل مترجما فى منظمة دولية ببيروقراطيتها ولغتها الخشبية؟ كيف يتحمل هو الجلوس لساعات طويلة وهو يترجم ويستمع لكلام إما أنه صيغ فى كتب وتقارير أريد لها أن تروج لفكرة ما، أو أنه جزء من حوار بين مندوبى الدول المدافعين عن الأوضاع فى بلدانهم وكلامهم فيه كثير من النفاق إن لم يكن الكذب!
***
كان يضحك بهدوء شديد وهو يحاول أن يشرح ويفسر كيف يدمج بين العالمين.. عالم شديد الخصوصية والإبداع والجمال وآخر بعيد جدا عن الجمال وعن الواقعية وربما حتى عن الصدق.. ويردد «دى حكاية ودى حكاية تانية».. لم أفهمه والسنون تمر ولقاءاتنا تقل حتى أصبحت نادرة وفى السنوات الأخيرة انقطعت برغم أننا نستنشق أخباره القادمة عبر المقربين منه وخاصة تلاميذه المبدعين.
***
تتحول أعماله إلى مسلسلات تلفزيونية، فنعيد الاتصال للتهنئة والقول أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يقدموا فى المسلسل جمال الرواية التى كتبها.. وهو يدافع بل يكرر على العكس «المسلسل كان جميلا».
***
بهاء الذى كان يرى الجمال فى تفاصيل اللحظة ويعشقها كما هى بل هو الذى فى إحدى الجلسات حاول أن يفسر لماذا كان الانتقال إلى العمل الروتينى فى الأمم المتحدة مفيدا أيضا لبنائه الروائى؟ وهو الذى لم يكن يرى إلا الجمال ويبعد ناظريه عن أى شكل من أشكال القبح رغم أنه كان يعرف أنهما يتجاوران أحيانا.
***
عندما مرض جميل واختفى من الصورة، أى مشهد اللقاءات مع الأصدقاء وتعثر الوصول له حتى بدافع مؤازرته فى محنته المرضية، بحثنا عن بهاء وما هو إلا بعض الوقت حتى اختفى هو الآخر من تجمعات الأصدقاء وابتعد صوته الرقيق بتلك النبرة الخاصة.. استسلمنا ربما إيمانا بحق الأصدقاء حتى لو كانوا أدباء وشخصيات عامة، حقهم فى الابتعاد والخصوصية توقفنا عن الإلحاح فى الزيارة أو سماع الصوت عبر الهاتف.. فمر الوقت كما كل شىء جميل ليأتى الخبر أن بهاء قد رحل أيضا مثله مثل جميل دون وداع حقيقى.. وداع لا علاقة له بصوان العزاء والسير حتى المدافن، بل وداع يليق به.
(*) بالتزامن مع “الشروق“