الإنتخابات النصفية: نصف خسارة ديموقراطية ونصف هزيمة جمهورية!

الحقيقة المؤكدة في الولايات المتحدة الأميركية هي أن البلاد مقسومة عامودياً بين الديموقراطيين والجمهوريين، ومن لا يرى ذلك فهو بالتأكيد إما مصاب بالعمى السياسي أو لا يفقه السياسة الأميركية.

الإنتخابات النصفية الأميركية أنتجت مجلس نواب بأكثرية جمهورية لن تتعدى بضعة مقاعد ومجلس شيوخ يُحتمل أن يبقى كما كان (50/50 فيكون صوت نائبة الرئيس هو الحاسم لمصلحة الديموقراطيين) بأسوأ الأحوال أو يكون 49/51 لمصلحة الديموقراطيين بأحسن الأحوال. هذه النتيجة ستبقى مُعلقة في إنتظار نتيجة ولاية جورجيا بعد السادس من كانون الأول/ديسمبر القادم، حيث ستجري إعادة للإنتخابات بسسب عدم حصول أي من المرشحين رفائيل وورنوك الديمقراطي أو هيرشل ووكر الجمهوري على أكثرية الخمسين في المئة المطلوبة للفوز من الجولة الأولى، وهذا المبدأ أقره برلمان الولاية في زمن الفصل العنصري كي لا يصل أي مواطن أسود الى مركز سلطة كبير، وبالتالي سيحاول الجمهوريون منع وصول وورنوك الأسود التقدمي، مرة ثانية الى مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا.

قبيل الإنتخابات، كثر الحديث عن “موجة حمراء” (جمهورية) قادمة أو حتى “تسونامي أحمر” يحصد مقاعد مجلسي النواب والشيوخ لمصلحة الجمهوريين، ولكن لم يحصل ذلك، وهذا الأمر كان مُخيباً لآمال اليمين ذي النزعة العنصرية الذي يتزعمه الرئيس السابق دونالد ترامب. كانت حسابات هؤلاء تشي بأنهم سيحصدون أكثرية تزيد عن أربعين مقعداً في الكونغرس وربما أكثرية مريحة في مجلس الشيوخ، وهذا التقدير كان مبنياً على نزعة تاريخية تتصف بها الإنتخابات النصفية حيث يخسر حزب الرئيس الحاكم الكثير من المقاعد في المجلسين، كما حصل إبان حكم رونالد ريغان وبيل كلينتون وباراك أوباما، ولكن وبسبب الإنقسام الحاد في السياسة وما أنتجه دونالد ترامب بإنقلابه على الديموقراطية كنظام للمرة الأولى منذ مائة وستين سنة إثر خسارته المدوية في إنتخابات 2020 ودعوته مؤيديه لإقتحام مبنى “الكابيتول هيل”، ما أدى إلى مقتل عدد من الناس وأفراد الشرطة في المبنى، وكذلك إصراره على الترشح للانتخابات الرئاسية في العام 2024. كل ذلك فاقم حدة الإنقسام في البلاد. أضف الى ذلك، أن الديموقراطيين عملوا جاهدين على إظهار إنقلاب المحكمة الأميركية العليا على قرارها السابق منذ خمسين عاماً في قضية “رو ضد وايد” ومنع حق المرأة في الإجهاض قضية اساسية في الإنتخابات النصفية، فأعطاهم ذلك فرصة لحشد ما إستطاعوا اليه سبيلا لوقف الزحف الجمهوري، وهذا ما أدى كذلك إلى إنتزاعهم عدداً من مراكز الحاكميات في بعض الولايات وعزز مواقعهم فيها.

وقبل أن تصدر النتائج النهائية للإنتخابات، بدأت أصابع الإتهام عند الجمهوريين تُحمّل ترامب مسؤولية هذه النتيجة ـ الهزيمة في الإنتخابات النصفية وآخرها في ولاية نيفادا التي حُسم فيها مقعد مجلس الشيوخ للديموقراطيين (50 مقعداً). أما ترامب، فقد رمى الكرة في ملعب ميتش ماكونيل ممثل الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، وكذلك هدّد حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس (44 عاماً) في حال أراد الترشح لإنتخابات 2024، معتبراً أن ذلك يُضر بالحزب الجمهوري، وهذا التهديد يسري على كل من يُفكر بالترشح في مواجهة ترامب خلال السنتين المقبلتين، علماً أن ترامب بصدد إعلان ترشحه للإنتخابات يوم الثلاثاء المقبل برغم تحذيرات مستشاريه وبعض المقربين منه وحتى أفراد عائلته.

ثمة إنقسام عامودي ليس في الإنتخابات النصفية، بل في كل المجتمع الأميركي. كان من المفترض أن تكون هناك “موجة حمراء” ولكنها لم تصل وبذلك تكون نتائج الإنتخابات النصفية هزيمة كبيرة للجمهوريين بالإجمال ولكن هزيمة أكبر لليمين العنصري ولترامب شخصياً

يُذكر أن دي سانتيس فاز بفارق مليون ونصف المليون صوت عن منافسه الديموقراطي، وهو أكبر فوز للجمهوريين في هذه الولاية منذ أكثر من أربعين سنة، ما جعل الأنظار تتركز أكثر فأكثر على هذا الزعيم الجمهوري الصاعد. كما نجح دي سانتيس في جمع تبرعات بقيمة 200 مليون دولار خلال هذه الإنتخابات وهو رقم يفوق كل ما جمعه ترامب بعد إنتهاء ولايته الرئاسية.

بكل الأحوال، ثمة تفسير لما أصاب الجمهوريين من إنكسار لـ”موجاتهم”؛ إذ أن الجمهوريين المعادين لترامب وللنزعة اليمينية العنصرية إنتظموا وتكتلوا وحتى تحالفوا مع الديموقراطيين مثل مجموعات “لينكولن بروجكت” و”ليز تشيني” وغيرهم ممن عملوا ضد ترامب والشعبويين واليمين المتطرف العنصري، وكان لافتاً للإنتباه التكتيك الجديد الذي إتبعه الديموقراطيون وأدى إلى إحداث حالة فرز بين الجمهوريين (ثنائية المعتدل والمتطرف)، وهذا الأمر جعل بعض الديموقراطيين المترددين يصوتون لمصلحة “الجمهوريين المعتدلين”، وبذلك يكونوا قد ضربوا عصفورين بحجر واحد!

في الخلاصة، ثمة إنقسام عامودي ليس في الإنتخابات النصفية، بل في كل المجتمع الأميركي. كان من المفترض أن تكون هناك “موجة حمراء” ولكنها لم تصل وبذلك تكون نتائج الإنتخابات النصفية هزيمة كبيرة للجمهوريين بالإجمال ولكن هزيمة أكبر لليمين العنصري ولترامب شخصياً. هذا لا يعني أن ترامب سيجلس في كرسي الإتهام والمحاسبة، فقد أثبت هذا الرجل قدرته على هزم الكثيرين من أخصامه وكذلك الأجهزة الحكومية من محاكم وكونغرس وحتى وزارة العدل ومصلحة الضرائب واستطاع بدعم من أكثرية الجمهوريين الخروج من محاكمتين في الكونغرس من دون “خدش واحد” وسيكون في التصويت لرئاسة الجمهورية القادمة قوة لا يُستهان بها وله حظوظ كبيرة بالفوز فيها بعد سنتين من الآن.

إقرأ على موقع 180  إيران: البرلمان يقطع طريق العودة إلى "النووي"، أم يُسرعها؟

إن صعود اليمين المتطرف في العالم الغربي ولا سيما في أوروبا يثير الكثير من المخاوف في العالم من قدوم موجة فاشية مماثلة لما حصل في ألمانيا النازية التي أوصلت هتلر الى المستشارية الألمانية وكذلك موسوليني في إيطاليا.

في مقالة له قبل بضعة أيام في صفحة الرأي في “النيويورك تايمز”، قارن الصحافي الأميركي المخضرم توماس فريدمان بين ما جرى في الإنتخابات الإسرائيلية وفوز بنيامين نتنياهو الذي سيؤلف وزارة يتمثل فيها العنصري إيتمار بن غفير وإمكانية أن نستفيق بعد إنتخابات 2024 ويكون دونالد ترامب قد ربح الإنتخابات وعيّن رودي جولياني وزيراً للعدل والجنرال مايكل فلين “المحكوم بالكذب” وزيراً للدفاع وإنريكي تاريو الرئيس السابق لـ”برود بويز” العنصرية وزيراً للأمن القومي والمحكوم ستيف بانون وزيراً للتجارة ومارجوري تايلور غرين في منصب الناطقة بإسم البيت الإبيض (الأخيرة عضو في الكونغرس عن ولاية جورجيا وتمثل “كيوانون”، وهي مجموعة متطرفة جداً وتؤمن بنظرية المؤامرة).

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  سلام الأوهام والأفخاخ القديمة.. مرة جديدة