الفائز في الإنتخابات الرئاسية الأميركية لن يترك بصمته على حياة الأميركيين فحسب، بل على عالم خارجي يترقب بقلق وحذر بالغين من سيُمسك بزمام القرار في دولة لا تزال الأقوى اقتصادياً وعسكرياً على مدى أكثر من قرن.
بيد أن استمرارية تربع الولايات المتحدة على عرش النظام العالمي، باتت محكومة بالسؤال التالي: إلى متى؟ هناك التحدي الماثل من الصين ومن دول الجنوب التي تحاول التفلت من الهيمنة واحتلال مكانتها التي تستحق في التاريخ.
مثلاً؛ هذه روسيا تخوض حرباً تقترب من عامها الثالث لدفع الحلف الأطلسي عن حدودها واستعادة مجد انهار مع سقوط جدار برلين قبل ثلاثة عقود ونيف. وهناك الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وحتى دول أوروبية في مقدمها فرنسا تسعى إلى “الإستقلال”. هناك تكتلات اقتصادية-سياسية على غرار “بريكس”، وأخرى ذات طابع سياسي-أمني مثل منظمة شانغهاي، إلى التكتل النفطي “أوبيك-بلاس”، كُلها تعبر عن رغبة عالمية في التفلت من النظام العالمي الأحادي بقيادة أميركا.
دولة مهاجرين تنتفض على المهاجرين!
وفي الداخل الأميركي نفسه، يُصوّر يوم الثلاثاء على أنه “يوم القيامة”. أميركا في ذروة انقسامها الثقافي والاجتماعي، إلى حد أن أمة أسّست مجدها على المهاجرين، يكاد يكون ملف الهجرة ينافس ملف الاقتصاد كأولوية الأولويات في الحملتين الانتخابيتين لكل من هاريس وترامب، وسط مزايدات حول من الأجدر على وقف عبور المهاجرين واللاجئين من أميركا الجنوبية عبر حدود المكسيك. الجدار المقام على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، تحوّل إلى محجة لبايدن وهاريس وترامب. أمة مهاجرة تلفظ المهاجرين. وترامب يعد في خطابه الشعبوي بـ”القيام بعمليات ترحيل كبيرة” فوراً إذا عاد إلى البيت الأبيض. السؤال” هل تبقى أميركا “أرض الأحلام”؟
ليس بخافٍ أن نتنياهو يُفضل عودة ترامب، لكن عدم القدرة على التنبؤ بالقرارات التي قد يتخذها الرئيس السابق، تجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحوط لهذا الاحتمال، فلم يقطع بالمرة مع هاريس، انطلاقاً من قاعدة أن أي رئيس أميركي لن يتجرأ على ممارسة ضغط فعلي على إسرائيل وقت تصور نفسها في “حرب وجودية”
كل الخطابات العنصرية والعرقية التخوينية، تستخدم في الحملات الانتخابية من الجانبين، بهدف إثارة الغرائز وتحقيق الفوز. كل طرف يتهم الآخر بأن دمار أميركا سيكون على يديه إذا فاز في الانتخابات. هاريس هي “ماركسية ومتلونة ومجنونة وعدوة من الداخل” في نظر ترامب. وترامب “فاشي” سيهلك الديموقراطية الأميركية في نظر هاريس. ترامب نفسه “قُمامة” في نظر بايدن. غالبية الأميركيين يعتقدون أن ترامب لن يعترف بنتائج الإنتخابات إذا لم تكن لمصلحته وبأن سيناريو 6 كانون الثاني/يناير 2021 قد يتكرر. وهذا ما يمنح صدقية استثنائية لقول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في كتابه “جرأة الأمل” بأن “التبسيط في السياسة صار فضيلة بعد رونالد ريغان”. أيضاً وضعت ولايات أميركية قوات الحرس الوطني في حالة تأهب تحسباً لما يُمكن أن يحصل في ضوء صدور نتائج الإنتخابات، وأعلن حاكم واشنطن عن وضع الحرس الوطني في العاصمة على أهبة الإستعداد للتدخل إذا تكرر سيناريو 2021.
رؤيتان.. وإسرائيل رابحة!
زادت حروب غزة ولبنان وأوكرانيا، من أهمية السياسة الخارجية الأميركية كقضية مطروحة على الناخبين الأميركيين، إلى جانب القضايا التقليدية التي كانت تستأثر باهتماماتهم في المواسم الانتخابية، وهي الاقتصاد والهجرة والإجهاض. وهذا زاد من تركيز هاريس وترامب على الولايات المتأرجحة السبع وهي ميشيغن وكارولاينا الشمالية وأريزونا وبنسلفانيا وجورجيا وويسكونسن ونيفادا. الغلبة في هذه الولايات تحتاج إلى بضعة آلاف من الأصوات فقط.
الدعم المطلق الذي قدمه الرئيس جو بايدن لإسرائيل في حروبها ولا سيما في حربي غزة ولبنان الأخيرتين، انعكس على هاريس التي تعاني للحصول على دعم الشريحة التقدمية في الحزب الديموقراطي وأصوات العرب والمسلمين، الذين أعلنوا أنهم لن يصوتوا لنائبة الرئيس، وبأن أصواتهم لن تذهب لترامب أيضاً، وإنما سيقترعون على الأرجح لمرشحة حزب الخضر جيل شتاين التي تجاهر بدعمها للفلسطينيين وتدعو إلى فرض قيود على إرسال السلاح إلى إسرائيل.
وفي حال فوز هاريس، فإنها لن تحيد كثيراً عن السياسات التي اتبعها بايدن حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وعلى رغم تأييدها لحل الدولتين، فإنها لن تجد في إسرائيل اليوم من يؤيد هذا الحل. والتأكيد المتكرر بتأييدها لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، ترفقه هاريس دائماً بالتزام أعلى بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”. ومن غير المرجح مهما كانت على تناقض مع السياسة الإسرائيلية، أن تذهب إلى فرض قيود على مبيعات الأسلحة للدولة العبرية.
في قاموس ترامب لا توجد عبارة من نوع “حل الدولتين”. وهو يعلن وقوفه بقوة خلف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حتى تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب، ويدعوه “لإنهائها بسرعة”. وعودته إلى البيت الأبيض، تثير مخاوف من تشجيع الإسرائيليين على استئناف الاستيطان في قطاع غزة ووضع سيناريو الترانسفير من غزة إلى سيناء موضع التنفيذ، فضلاً عن ضم الضفة الغربية، وممارسة الضغط على السعودية كي تُطبّع العلاقات مع إسرائيل من دون انتظار قيام دولة فلسطينية!
ليس بخافٍ أن نتنياهو يُفضل عودة ترامب، لكن عدم القدرة على التنبؤ بالقرارات التي قد يتخذها الرئيس السابق، تجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحوط لهذا الاحتمال، فلم يقطع بالمرة مع هاريس، انطلاقاً من قاعدة أن أي رئيس أميركي لن يتجرأ على ممارسة ضغط فعلي على إسرائيل وقت تصور نفسها في “حرب وجودية”. وعلى هذه القاعدة، كان نتنياهو يتخذ القرارات منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبايدن يقف خلفه. وتمكن من التملص من كل الاقتراحات الأميركية لوقف النار بإلقاء اللوم على حركة “حماس”. والسيناريو ذاته يتكرر مع حالة لبنان، اليوم، بالقاء المسؤولية واللوم على “حزب الله” وإيران!
معادلة جعلت “العديد من الديموقراطيين يشعرون بالقلق إزاء التكاليف الأخلاقية والجيوسياسية لدعم بايدن للهجوم الإسرائيلي في غزة ولبنان”، وفق ما جاء في موقع “ذا هيل” الأميركي.
وترامب أكثر حدة من هاريس حيال إيران. وعلى عكس بايدن، أعلن في 4 تشرين الأول/أكتوبر الماضي تأييده لتهديدات إسرائيلية بقصف المنشآت النووية الإيرانية، لكنه بدا حذراً حيال دعوة نتنياهو إلى اسقاط النظام الإيراني، لا بل إنّه أبدى استعداده أكثر من مرة مؤخراً لفتح مفاوضات مع طهران للتوصل إلى اتفاق نووي جديد، بديلاً للاتفاق الذي انسحب منه عام 2018.
وعليه، يبدو نتنياهو رابحاً سواء فازت هاريس أو عاد ترامب.
يحذر موقع “بوليتيكو” الأميركي، من أنه ينبغي أن تؤخذ تهديدات ترامب المعلنة بسحب واشنطن من حلف شمال الأطلسي على محمل الجد، لأنه هذه المرة ربما لن يكون ترامب محاطاً بقيود “الدولة العميقة”
زيلينسكي وأوروبا.. قلق مفتوح
إلا أن هناك توقعات بأنه حتى هاريس لن يكون في وسعها مواصلة الدعم الأميركي بالمستويات التي قدّمها بايدن، لأن الرأي العام الأميركي بات أكثر ميلاً إلى البحث عن تسوية تفاوضية للنزاع، بعدما تبدّدت الحماسة التي برزت في السنتين الأوليين للحرب. ثم أن الجمهوريين في الكونغرس لن يُسهّلوا تمرير مساعدات سخية لأوكرانيا.
ومع ذلك، تواصل زيلينسكي مع ترامب واجتمع به في آخر زيارة له للولايات المتحدة على هامش انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي. والجمهوريون يُذكّرون دائماً بأن ترامب هو الذي زوّد أوكرانيا بصواريخ “جافلين” المضادة للدروع قبل الحرب والتي لعبت دوراً حاسماً في صد الهجمات الروسية.
وفي الولايات المتحدة، ركّزت هاريس في حملتها الانتخابية، على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيكون سعيداً بفوز ترامب، نظراً إلى الإعجاب الذي عبّر عنها الرئيس الأميركي السابق أكثر من مرة لأسلوب الحكم في روسيا.
كما ينتظر الحلفاء الأوروبيون بقلق لمعرفة ما إذا الفائز سيكون ترامب، الذي يعتبر كابوساً بالنسبة للكثيرين، أو هاريس، التي ينظر إليها البعض على أنها ستكون أفضل بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي.
ويحذر موقع “بوليتيكو” الأميركي، من أنه ينبغي أن تؤخذ تهديدات ترامب المعلنة بسحب واشنطن من حلف شمال الأطلسي على محمل الجد، لأنه هذه المرة ربما لن يكون ترامب محاطاً بقيود “الدولة العميقة”. وعلى النقيض من ذلك، تتعهد هاريس باستمرارية الدور القيادي العالمي للولايات المتحدة ولديها مستشار محب لأوروبا، فيل غوردون، الذي تُعلّق عليه أوروبا آمالاً كبيرة.
وبايدن هو آخر رئيس مشبع بعقلية الحرب الباردة، لذلك أتى وقوفه مع أوكرانيا بهذه الصلابة. وعلى العموم، لم تعد أوروبا تشكل تلك الأهمية التي شكلتها بالنسبة للولايات المتحدة على امتداد عقود. وهذا عائد أيضاً إلى تخلف القارة العجوز اقتصادياً عن الولايات المتحدة والصين. وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التحذير من احتمال “موت” القارة في حال لم تنهض مجدداً.
الصين.. أولوية اميركية
العلاقة مع الصين هي على رأس الأولويات الأميركية، وتحوز على الاهتمام الأكبر في برنامجي هاريس وترامب. ويُتوقع أن تحافظ هاريس على سياسة بايدن حيال بكين، من طريق تعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع دول في المحيطين الهندي والهادىء مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين والهند، فضلاً عن تايوان.
في المقابل، تعهد ترامب بزيادة التعريفات الجمركية على البضائع الصينية بنسبة 60 في المئة، مما يُشكل تهديداً للاقتصاد الصيني الذي يعتمد على الطلب الخارجي وخصوصاً من الولايات المتحدة. لكن عملية فك الترابط بين الاقتصادين الأميركي والصيني من شأنها إضعاف اقتصاد الولايات المتحدة أيضاً.
وتلفت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية الإنتباه إلى أن العالم لا يشارك في انتخاب الرئيس الأميركي، “لكنه سيتعايش مع نتائج” اختيار هاريس أو ترامب!