لم أكن وحدي التلميذ المراقب والمنتبه. كنا كثيرين. دبلوماسيون وصنّاعُ سياسة وقضاةٌ دوليون وصحفيون قضينا العقود نراقب ما أطلق عليه الإسرائيليون عبارة “عملية سلام” يخفون تحتها عبارة أخرى، ربما كانت هي الأصدق والأدق، أقصد عبارة “سلام صهيوني”. سلام تجري هندسته وإخراجه ليعم الشرق الأوسط، وربما العالم في آتي الأيام.
في الأثناء، جاءنا نتنياهو، نِعْمَ المعلم الكفوء والمتشبع بخلاصات ودروس من سبقوه من رهابنة اليهود في الزمن القديم ومبتدعي الفكر الصهيوني وأساتذة إرهاب الدولة في العصر الحديث. تعلّمنا الكثير وأسوق فيما يلي عناوين بعض ما تعلّمنا على يدي المعلم ومن سبقه من المعلمين وهم وللحق كثر:
أولاً؛ تعلّمنا، كما قال إسحاق شامير وفعل نتنياهو، أن لا اتفاق يستحق ثمن الورق الذي كُتبَ عليه. لدينا في اتفاقات الهدنة العديدة وفي اتفاق أوسلو وما آلت إليه اتفاقات التطبيع نماذج كثيرة.
ثانياً؛ تعلّمنا من حكاياتهم أن الأسطورة خلقت لخدمة مصالح شخصية لقادة وحكام أو لتحقيق أهداف وطنية أو قومية أو دينية أو لجميعها في آن..
ثالثاً؛ نرى في هذه الأيام على مختلف الشاشات وبكثرة خريطة لإسرائيل تغطي فلسطين والمملكة الأردنية وسوريا وجانباً من سيناء. تعلّمنا ونتعلم منهم أن الصورة التي تبث بين الحين والآخر أهم وأجدى نفعاً وأسرع في النفاذ إلى عقول التلاميذ والبسطاء من الإعلاميين من ألف خطاب وألف حديث دردشة وألف مؤتمر صحفي.
رابعاً؛ ازددنا علماً بأن الديموقراطية الغربية يُمكن أن تتواطأ فتتحول في لحظة إلى نظام رهيب في تدينه؛ دمويٌ في مسلك تعامله مع الأغيار وبخاصة الأطفال منهم والنساء. تعلمنا أيضاً، أو ازددنا علماً، بأن عصر النقابات العمالية والمهنية عموماً على وشك نهايته. رأينا مشهداً في الأيام الأخيرة يُعبّر أصدق تعبير عن نهاية الهستدروت؛ النقابة التي كانت تقود السياسة في إسرائيل قبل نصف قرن. النقابات نراها الآن في دول ديموقراطية كثيرة منسحبة أو مقهورة أو منسحقة أمام صعود وزحف اليمين المتطرف. نصيحة نتنياهو “عليك باليمين في إسرائيل إن كانت لك حاجة عندنا أو عند عديد دول الغرب وبعض دول العرب”.
تعرّت خلال حرب غزة القيم المنظمة لعلاقات الدول والبشر. فقدت دول الغرب الحق في رفع شعارات الحرية والديموقراطية. أوروبا منهكة وأمريكا مرتبكة. أرى على البعد جحافل زاحفة من الشرق نحو صدام مؤكد مع الصهيونية العالمية. هل نجلس وننتظر وصولها لإنقاذنا وإنقاذ نفسها؟ أم نستعير من التاريخ سيراً تُعيننا على تجاوز أزمتنا قبل أن تستفحل؟
خامساً؛ تعلّمنا وما زلنا نتعلّم أن إسرائيل في علاقاتها بأمريكا تتعامل معها بالمنطق التالي “بفضلكم وفضل المملكة المتحدة صارت الصهيونية أقوى جماعة عالمية لا تخضع إلا لقواعدها المنتشرة في مواقع اتخاذ القرار المالي والاقتصادي والسياسي والعسكري في دول ومؤسسات دولية عديدة”. أرأيتم كيف يتعامل مندوب إسرائيل ووزير خارجيتها مع أهم قيادات الأمم المتحدة ومع ميثاق المنظمة؟ أرأيتم نظرات المسئولين الإسرائيليين في مجلس الأمن عند التصويت على مشروع قرار لا تريده إسرائيل؟ قال صديقي الدبلوماسي العربي إنّه حضر كضيف مراقب جلسات عديدة لهذا المجلس الموقر لم يسجل عليه لحظة خنوع وإذلال متعمد كاللحظات الكثيرة التي سجلها مع مراقبين آخرين ممن يحضرون جلسات انعقدت وتنعقد خلال حرب إبادة فلسطين. أضاف قائلا، “كدتُ ذات جلسة ولفرط ضراوة المشهد أتعاطف مع مندوب الولايات المتحدة وهو يرفع يد متخاذلة ليعلن بها رفض بلاده لمشروع قرار.. إقرارُه وإنْ كانَ يُرضي غالبية دول وشعوب العالم لم يكن ليرضي منظومة الضغط الصهيوني المسيطرة على وزارة الخارجية الأمريكية وغيرها من عديد مؤسسات الحكم في واشنطن، وبالتالي يحرم الحكومة القائمة وأكثرية نوابها وشيوخها من التجديد”. أنهى الصديق رسالته قائلاً: “رأيت أمريكا القطب الأعظم تجلس في مقعد صنعته واتسع عليها”. تعبير سمعته يصف سجل السيد أنتوني بلينكن في جلسات التوسط بين نتنياهو وحركة حماس.
سادساً؛ قرأنا قبل يوم أو يومين أن حكومة نتنياهو كلّفت المسئولين في “آيباك” المنظمة الصهيونية الأمريكية الاتصال برجال ونساء نواب وشيوخ في الكونجرس الأمريكي وتوجيههم لفرض عقوبات على دولة جنوب إفريقيا لتسحب القضية التي رفعتها ضد إسرائيل في محكمة العدل في لاهاي. إسرائيل توجّه أوامر لينفذها المشرعون في الولايات المتحدة الأمريكية.
سابعاً؛ للمرة العاشرة أو العشرين يكذب أعلى القادة في أمريكا عن حقيقة الطرف المسئول عن فشل مفاوضات التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في فلسطين. علّق صديق أوروبي بقوله “إلى هذا الحد انحدرت هيبة الدبلوماسية الأمريكية وعلى يد نتنياهو والصهيونيىة العالمية”!
ثامناً؛ خلال مقابلة مع طالب يدرس تمهيداً للالتحاق بالعمل الدبلوماسي في بلده قاطعني قائلاً “أعذرني ولكن أنت وزملاء لك علّمونا أنه في المفاوضات لا يحضر المفاوض وإصبعه مصلت على زناد مسدسه. هؤلاء يقتلون من يفاوضهم”.
تاسعاً؛ صديقة ألمانية همست في أذني في ندوة سياسية قائلة “أينما ذهبت في بلادكم أسمع السؤال: أيها الألمان، بربكم ماذا فعلنا نحن العرب لتجبرونا على دفع فاتورة نازيتكم وتعاليكم وحروبكم؟. خذوهم عندكم إن كنتم حقاً نادمين على ما فعلتم بهم. لا يهمنا أن تُنفقوا عليهم مما هو حق أولادكم ولكن أن تمدوهم بما يقتلوننا به فهذا وللحق ما لا يرضينا”.
***
تعرّت خلال حرب غزة القيم المنظمة لعلاقات الدول والبشر. فقدت دول الغرب الحق في رفع شعارات الحرية والديموقراطية. أوروبا منهكة وأمريكا مرتبكة. أرى على البعد جحافل زاحفة من الشرق نحو صدام مؤكد مع الصهيونية العالمية. هل نجلس وننتظر وصولها لإنقاذنا وإنقاذ نفسها؟ أم نستعير من التاريخ سيراً تُعيننا على تجاوز أزمتنا قبل أن تستفحل؟