في كتابه “انهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية”، يشير رونين بيرغمان إلى أن الجيش “الإسرائيلي” حاول خلال فترة التدريب الطويلة لضباط الشبكة الاستخبارية، ومعظمهم صغار السن وعلى تماس مع معلومات سرية للغاية، “خلق شعور لديهم بالاخلاق والمسؤولية القانونية. وفي احد الدروس التي خضعوا لها مثلاً كان هناك درس عن الحقوق المدنية وما يترتب على خرق هذه الحقوق في بعض الاحيان نتيجة عمليات التنصت. وأخبر الجيش المتدربين ان عليهم الا يستغلوا السلطة الهائلة التي اعطيت لهم لأي اهداف تتجاوز الحصول على معلومات لمصلحة امن الدولة. ودراسة الحالة التي استخدمت في هذا الاطار كانت عن حادثة حصلت في العام 1995 عندما كان رجال الوحدة 8200 يحاولون تحديد موقع اتصالات على علاقة بـأسامة بن لادن وبالصدفة وقعوا على تسجيلات متعمدة لمحادثات هاتفية تعود للممثل توم كروز، الذي كان يعمل حينها في الشرق الاوسط، مع الممثلة التي كانت زوجته حينها نيكول كيدمان. قاموا بعدها بتوزيع نص التسجيلات على اصدقائهم وسربوا النصوص الخطية”.
وينقل الكاتب عن “أمير” (أمير إسم وهمي لشاب لامع تم تعيينه في الوحدة 8200) قوله “اذا كان ذلك التنصت اعتبر ممنوعاً وعملاً غير اخلاقي فمن الواضح ان قصف ذلك المبنى (المكتب المدني لحركة فتح في مدينة خان يونس في قطاع غزة) كان ممنوعاً، وكلما فكرت به كلما تأكدت انه ممنوع تنفيذ هذا الامر”.
ويتابع بيرغمان ان “أمير” أثار الموضوع مع أحد كبار ضباط شبكة الاستخبارات ومع قيادة الوحدة 8200. “فقالوا في القيادة انهم “يفهمون ان هناك مشكلة” وانه جرى تعليق العملية حتى اشعار اخر. ويتابع “أمير”: “لقد ارضاني الرد وكان باماكاني العودة الى موقعي الذي كنت قد اغلقته في الساعة الثانية فجراً مع احساسي ان كل القصة اصبحت خلفنا”. في صباح اليوم التالي عندما جلس “أمير” في مركز عمل ضباط شبكة الاستخبارات وبدأ بتوجيه العمل أتاه اتصال من قسم الاهداف يفيده ان قصف مركز فتح في خان يونس على وشك ان يتم. اعترض “أمير” ولكن الضابط على الجهة المقابلة من الخط المشوش أصبح غاضباً من اعتراضه، وصرخ به “لماذا يبدو هذا الامر غير قانوني بهذه الصورة الجلية لك؟ فكلهم عرب وكلهم ارهابيون”. فقال له “أمير”: “في وحدتي، لدينا تمييز واضح بين الارهابيين وغير المتورطين مثل اولئك الناس الذين يذهبون الى ذلك المبنى المستهدف في عملهم الروتيني اليومي”.
يضيف بيرغمان “أن ذلك لم يغير قناعة أحد وكانت العملية حينها بطريقها الى التنفيذ، اذ كانت طائرتان حربيتان من طراز اف 16 تحلقان بشكل دائري فوق البحر الابيض المتوسط بانتظار تلقي الامر وكانت طائرة مسيرة من دون طيار تصور المبنى المستهدف عن بعد. كان المتوقع أنه ما أن يخبرهم “أمير” أن احداً ما دخل المبنى، سيتم إطلاق صاروخين من طراز “هيلفاير” على المبنى. لذا، قرر “امير” عدم التعاون واخذت النيران تنتشر في القلب (الوصف الذي قدمه أرييل شارون سابقا عن تمرد الطيارين وعملاء سريات ميتكال)”.
كان الكل يقول دائما ان جنود الوحدة 8200 هم اطفال مدللون اتوا من الجزء الافضل في تل ابيب الى الجيش وحصلوا على افضل تدريب في العالم وعلى معدات تقنية متقدمة تقدر قيمتها بالمليارات وانه ينبغي ان يكونوا ميالين للجناح اليساري ومطاعم الحمص، وكانت الوحدة دائما تعمل على محاربة هذه الصورة عنها، وفجأة اصبح عليها ان تواجه الصبغة الجديدة عنها بانها مليئة بالفوضويين الذين يرفضون تنفيذ الاوامر
إنهالت الاتصالات على مقر قيادة الوحدة 8200، يقول بيرغمان، “من قيادة سلاح الجو وقيادة جهاز “أمان”. ويستذكر آمر الوحدة 8200 حينها العميد يائير كوهين قائلاً “خاطبوني بأن وحدتك ترفض اعطاءنا المعلومات عن كذا وكذا. فقلت لهم لا بد انكم مخطئون، فلا يوجد هكذا شيء في الوحدة 8200، كحجب المعلومات، فهذا امر لم يسبق ان حصل على الاطلاق ولا يجب ان يحصل على الاطلاق”. وفي الساعة 10:05 تلقى “أمير” اتصالا من قيادة الوحدة قيل له فيه “يقول لك يائير (كوهين) هذا ليس وقت طرح الاسئلة بل هو وقت العمل”. فأمر العمليات كان ينص ان يتم قصف المبنى في الساعة 11:30 عندما يكون اطفال مدرسة مجاورة قد خرجوا الى ملعب المدرسة. فأجاب “أمير”: “هذا امر غير قانوني بصورة واضحة ولا نية لدي لاطاعته، وحقيقة اعتبار قائد الوحدة له انه قانوني لا يجعل منه امرا قانونياً”. وبعد صمت لبرهة جاءه الجواب “لقد نقلت لك الرسالة كما وردتنا من القيادة وانا سعيد جدا انني لست في موقعك في هذه اللحظة”.
بعد دقائق قليلة من الإتصال، يتابع بيرغمان السردية “الإسرائيلية”، وصل أحد جنود “أمير” وأخبره ان اتصالات هاتفية تتم داخل مبنى حركة فتح المستهدف، وهناك رجل يتعامل مع قضية دفع الرواتب ويحاول الحصول على الاموال لبعض الموظفين بالرغم من الاوقات الصعبة التي كانت تعيشها السلطة الفلسطينية وبالرغم من الحرب الدائرة. وكانت هناك احدى السكرتيرات تبث النميمة عن احد القوادين المحليين. كان ذلك يعني اشارة الانطلاق لطائرات اف 16 لإطلاق نيرانها وكان يمكن لـ”إسرائيل” أن تقتل الشخصين المذكورين. جلس “أمير” في مقعده المخصص لضابط الدوام في ضباط الشبكة الاستخبارية وينقل عنه بيرغمان قوله “غمرتني لحظة من السكينة النفسية، شعرت ان هناك شيئاً وحيداً بامكاني ان افعله وكان واضحاً لدي ان هذه العملية يجب الا تنفذ لانها تُمثل تجاوزاً للخطوط الحمر وان تنفيذها كان امرا غير قانوني بشكل واضح يرفرف فوقه علم اسود، وان ذلك كان من مسؤوليتي كجندي وككائن بشري ان ارفض تنفيذ الامر. فاعطيت الامر بان لا تُعطى المعلومات المتوفرة وأمرت بوقف كل النشاطات المتعلقة بها”.
وعند الساعة 10:50 اي قبل اربعين دقيقة من اغلاق نافذة وقت العملية، وصل الى القاعدة الآمر المباشر للضابط “أمير” ويدعى أ. (ذكر الكاتب فقط الحرف الاول من اسمه) واعفى “أمير” من موقعه واخذ مكانه في مقعد ضابط الشبكة الاستخبارية وامر احد الجنود بان يعطي التقرير عن وجود اناس في المبنى وبانه بالامكان البدء بالقصف. ولكن الوقت كان قد فات، فالطائرات كانت قد عادت الى المدرج في قاعدة تل نوف. ومع وصول المعلومات اليهم للإقلاع مجددا وفي الوقت الذي باتوا فيه فوق الهدف اظهرت الساعة انها اصبحت 11:25 وكان جرس المدرسة المجاورة قد رن. عشية ذلك اليوم ارسل قائد الوحدة 8200 رسالة الى رئاسة جهاز “أمان” يعرب فيها عن تحفظه الشديد على العملية وجرى نقلها الى وزير الدفاع الذي امر بالغاء الهجوم على الهدف 7068″.
كان ذلك تبرئة واضحة للموقف الاخلاقي لـ”أمير” ولكن كان الوقت قد فات لاسكات عاصفة “التمرد في الوحدة 8200” التي انطلقت في المؤسسة العسكرية. ووقعت قيادة الوحدة 8200 تحت وابل من النيران الكثيفة من جميع اتجاهات المؤسسة العسكرية – حتى رئيس الوزراء شارون اتخذ موقفا غامضا بحسب ما رشح عنه – وتم استدعاء يائير كوهين لاجتماع مع هيئة الاركان العامة للجيش “الإسرائيلي” خصص كليا لقضية “أمير”. وقد طالب بعض الضباط في الاجتماع بتحويل “أمير” الى محكمة عسكرية ميدانية وان يسجن على الاقل ستة اشهر فيما ذهب احد الجنرالات ابعد من ذلك قائلا “ان هذا الضابط يجب ان يدان بتهمة الخيانة وان يصار الى وضعه امام فرقة الاعدام رمياً بالرصاص”، كما ورد في كتاب بيرغمان.
يضيف الكاتب رونين بيرغمان، “كان احتجاج ضباط سلاح الجو على قصف القيادي صلاح شحادة قبل اشهر قليلة ورفض عملاء سريات ميتكال المشاركة في اي عمليات قتل ما يزالا طازجين في عقول الجميع. فقام احد ما، احتمال ان يكون من الوحدات المنافسة للوحدة 8200، بتسريب القصة الى وسائل الاعلام. لم يكن في التقرير الاعلامي تفاصيل لما حدث ولكنه رفع حدة التوتر في المناخ العام، وانطلقت التظاهرات في الشوارع من اليمين واليسار، وذلك قبل ايام قليلة من انتخابات الكنيست. وباتت المؤسسة العسكرية ومؤسسة الاستخبارات قلقتين من ان يكون “أمير” الاول بين عدد من الجنود الذين يرفضون تنفيذ الاوامر. فمن وجهة نظر القادة فان قمع الانتفاضة الفلسطينية لم يترك الكثير من المساحة للمعترضين الليبراليين”.
وينقل بيرغمان عن “مسؤول كبير” قوله “إن الوحدة 8200 تشكل المثال في عالم السرية، فهي دائما بعيدة عن النظر، ودائما وحيدة، ومعزولة عن باقي وحدات الجيش وذات نوعية عالية ومخفية، وفجأة وجدت الوحدة نفسها تحت الاضواء داخل الجيش الإسرائيلي وبأقصى السلبية. وكان الكل يقول دائما ان جنود الوحدة 8200 هم اطفال مدللون اتوا من الجزء الافضل في تل ابيب الى الجيش وحصلوا على افضل تدريب في العالم وعلى معدات تقنية متقدمة تقدر قيمتها بالمليارات وانه ينبغي ان يكونوا ميالين للجناح اليساري ومطاعم الحمص، وكانت الوحدة دائما تعمل على محاربة هذه الصورة عنها، وفجأة اصبح عليها ان تواجه الصبغة الجديدة عنها بانها مليئة بالفوضويين الذين يرفضون تنفيذ الاوامر”.
وبعد أن يستشهد بيرغمان بآراء ضباط وأكاديميين كلها لا تبرر “فعلة أمير” يخلص إلى انه جرى تسريح “أمير” من دون ادانته ما حال دون منح المحاكم فرصة تحديد ما اذا كان امر قتل المدنيين في الهدف 7068 قانونيا ام لا؟