في أول ظهور علني جماهيري له مؤخراً، منذ محاولة اغتياله في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن زعيم حزب “إنصاف”، رئيس الوزراء الباكستاني المُقال، عُمران خان، عن حل الحكومتين المحليتين في إقليمي خيبر والبنجاب (الخاضعين لسلطته المحلية)، واستقالة كل نواب حزبه، مكرراً معارضته لما أسماه “النظام الفاسد”.
جاء ذلك في تجمع شعبي حاشد ترأسه خان في راولبندي (المدينة التوأم والمحاذية للعاصمة إسلام آباد)، كان ذروة “المسيرات الطويلة” التي يقودها منذ إقالته من منصبه، في أبريل/نيسان الماضي، للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة (قبل انتهاء ولاية البرلمان في أكتوبر/تشرين الأول المقبل). ويتهم خان قادة عسكريين بأنهم خانوه، وتواطأوا مع “سياسيين فاسدين لإغتصاب السلطة” منه.
وكان خان قد تعرض لمحاولة اغتيال، في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عندما فتح مسلح النار عليه بينما كان وسط تجمع حاشد لأنصاره، ما أدَّى إلى مقتل شخص وإصابة آخرين بجروح بينهم خان. وبرغم أن دوافع مُطلق النار؛ الذي تم اعتقاله؛ ما تزال غير واضحة، سارع خان إلى إلقاء اللوم على الحكومة الباكستانية، ووجه إتهاماً واضحاً لمسؤول استخباراتي كبير. فمنذ خسارته منصبه، بدأ خان حملة انتقادات واسعة ضد كل من الحكومة المدنية الحالية وجنرالات الجيش؛ الذين يُنظر إليهم على أنهم “سماسرة” السلطة الحقيقيون في باكستان. وهو بذلك يساهم في تعميق التوترات السياسية المشحونة بالفعل، ويضع نفسه في مواجهة مباشرة وغير مسبوقة مع مؤسسة الجيش، التي كانت حليفاً له في السابق (…).
ولكن، هناك ما هو أكثر من الطموح الشخصي على محك حركة خان الاحتجاجية. فبعد أن كان داعماً (ومدعوماً) من مؤسسة الجيش، ها هو الآن يتحداها ويتحدى المؤسسة السياسية المدنية، من خلال تعبئة العديد من الباكستانيين للإنضمام إلى قضيته، والوقوف معه ضد من يسميهم “كتل السلطة التقليدية” في البلاد. وبذلك، يكون خان قد قلب الصيغ السياسية التقليدية السائدة في باكستان رأساً على عقب، ونجح في استقطاب مؤيدين أكثر من أي وقت مضى، حتى باتت المؤسستان – العسكرية والسياسية – تنظران إليه على أنه “التهديد الأكثر قوة” لهما. ونتيجة لذلك، أصبحت باكستان أكثر اضطراباً، وأصبح التنافس السياسي على أشده، ولا يبدو أن أياً من الجانبين على إستعداد للتراجع، رغم المخاطر والأزمات الاقتصادية والبيئية التي تعصف بالبلاد.
النهاية هي مجرد البداية
بداية، صنع خان اسمه كنجم لفريق “الكريكيت” الوطني الباكستاني. ثم انخرط في العمل السياسي في عام 1996. وخلال العقد الماضي، وسَّع برنامجه السياسي وقدَّم نفسه على أنه “منشق ومستقل”. وبذلك، تبرأ من كل النُخب السياسية التقليدية، وكذلك من الحزبين اللذين هيمنا على الحياة السياسة الباكستانية لفترة طويلة: حزب “الرابطة الإسلامية الباكستانية” (PML– N)، و”حزب الشعب الباكستاني”، (PPP). وفي عام 2018، أصبح رئيساً للوزراء (…). يومها، نظر الجيش إلى خان على أنه “البديل المُطيع” عن الحزبين الراسخين (PML– N وPPP)، حتى أنه؛ في البداية؛ بدا وكأنه يحكم بدعم مباشر من مؤسسة الجيش. لكن تصدعات في العلاقة بدأت تظهر عندما تراجع خان عن تعيين رئيس جديد للمخابرات في عام 2021، الأمر الذي دفع الجيش إلى سحب دعمه له. وهذا ما جعل ائتلافه الحاكم “هشاً وشبه معزول”، وشجَّع المعارضة آنذاك على إجراء تصويت لحجب الثقة وصولاً إلى الإطاحة به.
الشباب يشكلون 64% من الديموغرافيا الباكستانية، ويفضلون توجهات خان بسبب خيبتهم من الطبقة السياسية الحاكمة.. وبالتالي أصواتهم مضمونة له في الانتخابات المقبلة
هكذا انتهت فترة ولاية خان في نيسان/أبريل قبل أوانها (عام 2023)، وتم استبعاده لاحقاً من تولي مناصب عامة. لم يكن ذلك بجديد في بلد مثل باكستان، حيث لم يُكمل أي رئيس وزراء مُنتخب فترة ولاية كاملة في منصبه. صحيح أن خان تمت الإطاحة به بطريقة قانونية (التصويت في البرلمان)، لكن ذلك ما كان ليحصل لو أن العلاقة مع مؤسسة الجيش كانت جيدة (كما كان الحال مع جميع أسلافه).
ومع ذلك، كانت تلك النهاية “مجرد البداية” بالنسبة لخان. فهو استغل الإطاحة به لشن حملة تظلم قوية، يدعمها بانتقادات وشعارات لاذعة يصف فيها الحكومة الحالية بأنها غير شرعية، ويتهم الجيش وخصومه بـ”التواطؤ” مع الولايات المتحدة لإزاحته (…). وبرغم أن نظرية المؤامرة والاتهامات التي يشنها خان تفتقر للأدلة في كثير من الأحيان، لكنها وجدت صدى إيجابياً واسعاً بين مناصريه ومؤيديه، وجعلت المسيرات التي يقودها تحشد مئات آلاف المشاركين من مختلف أنحاء البلاد، ما يدل على أن قوته في الشارع الباكستاني تتعزز يوماً بعد يوم.
والمسيرات التي يقودها خان ليست مجرد نشاط سياسي تقليدي. إنها تشبه “كرنفالات” من نوع ما، مليئة بالعروض الموسيقية ويحضرها الرجال والنساء والأطفال. في العادة، يصعُب معرفة أو تمييز ما يفضله الناخبون في باكستان، لأنه لا توجد استطلاعات رأي منتظمة تواكب الحملات الانتخابية وموعد الاقتراع. لكن يمكن القول إن أنصار خان معظمهم من الطبقة الوسطى ومن دُعاة الدولة المدنية، بينهم نسبة كبيرة من الشباب الذين سئموا من الأحزاب السياسية التقليدية القديمة. هم جيل أنتجته وسائل التواصل الاجتماعي. لا يستسيغون الأساليب الكئيبة الراسخة في العمل السياسي (أعمال تجارية، مؤتمرات صحفية، خطابات إنشائية طويلة وجافة،.. إلخ.).
زد على ذلك أن الديموغرافيا الباكستانية شابة (حوالي 64 بالمائة من السكان هم من أعمار 30 سنة وأقل)، وهذه الشريحة قد تفضل توجهات حزب خان وتمنحه أصواتها في الانتخابات المقبلة. كما أن خيبة أمل الباكستانيين من الطبقة السياسية الحالية جعلت قاعدته عريضة تتخطى حدود مناطق نفوذه (البنجاب وخيبر باختونخوا)، ومتواجدة في معظم المناطق الباكستانية (…).
الفضل في ذلك يعود إلى أن خان، وهو شعبوي ماهر، يقدم لمؤيديه برنامجاً يتضمن مقاطعة كل المؤسسات التي شكَّلت حياتهم لفترة طويلة من الزمن. ويحرص في كل التجمعات التي يترأسها، والمقابلات الصحفية وغير الصحفية التي لا حصر لها، على وصف الحكومة الحالية بأنها “سُلالية وفاسدة” لا تستحق أن تحكم، ويسمي رئيس الوزراء الحالي بـ”وزير الجريمة”. والأهم من ذلك كله، أنه دخل في مواجهة مباشرة مع الجيش، وتجرأ على السخرية العلانية من مزاعم المؤسسة العسكرية بالحياد السياسي. وفي هذا إنقلابٌ دراماتيكي للأدوار: فعندما كان خان رئيساً للوزراء، صوَّره خصومه (وفي مقدمتهم حزب الرابطة الإسلامية) على أنه “دمية” في يد الجيش. الآن، وبعد أن أن أصبح حزب الرابطة يتولى السلطة تراجع عن موقفه المُعادي للجيش.
الاحتجاج ضد المؤسسة العسكرية من أهم شعارات الحملة التي يقودها خان. وهو نجح في إقناع أنصاره بتفريغ جُلَّ غضبهم؛ عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ على أقوى رجل في باكستان، ألا وهو قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا (مؤخراً، تم تعيين قائد جديد للجيش، وهو الجنرال عاصم منير، الرئيس السابق للاستخبارات الداخلية والعسكرية).
ويبدو أن الحملة التي يقودها خان تؤتي ثمارها: فقد فاز حزبه بـ 15 مقعداً من أصل 20 مقعداً في الانتخابات الفرعية لمجلس إقليم البنجاب، التي أُجريت في تموز/يوليو الماضي. كما فاز بـ6 مقاعد من أصل 8 مقاعد في الإنتخابات الفرعية للجمعية الوطنية التي أُجريت في تشرين الأول/أكتوبر. وتشير هذه النتائج، والحشود الجماهيرية الهائلة التي تشارك أسبوعياً في تجمعاته الإنتخابية، إلى أن خان قد نجح بالفعل في قلب قاعدة السلطة التقليدية للحزب الحاكم (PML– N) في البنجاب. كما أن تزامن هذه التطورات مع الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم في البلاد يوماً بعد يوم (بسبب التضخم وتضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي)، يضع الحكومة تحت ضغط كبير ويجعلها تخشى انفجار غضب الناخبين.
التغلب على الخصوم
ومن أجل مواجهة خان، تضافرت جهود الحكومة والمؤسسة العسكرية للضغط، وبقوة، على خان وحزبه والقنوات الإعلامية المتحالفة معهما، في محاولة لتوريطهما في مشاكل قانونية: في آب/أغسطس، اتهمت الشرطة خان بالتحريض على الإرهاب بسبب تصريحات قيل أنه هدّد بها ضباط الشرطة والقاضي المتورط في قضية ضد أحد مساعديه؛ لكن محكمة إسلام أباد العُليا أسقطت التُهم. وتم احتجاز بعض مساعدي خان وكبار أعضاء حزبه مؤقتاً. كما تم إيقاف بث قناة تلفزيونية متعاطفة معه، وأفاد صحافيون بأنهم تعرضوا لضغوط لمغادرة البلاد. في تشرين الأول/أكتوبر، قُتل الصحافي البارز، أرشد شريف، في كينيا في ظروف غامضة، وكان مقرباً جداً من خان (…). وأخيراً، وليس آخراً، تم استبعاد خان من خوض الانتخابات لمدة خمس سنوات بتهمة الفساد (…).
خان شعبوي ماهر، يقدم لمؤيديه برنامجاً يتضمن مقاطعة كل المؤسسات التقليدية.. يصف الحكومة الحالية بأنها “سُلالية وفاسدة” لا تستحق أن تحكم، ويسمي رئيس الوزراء الحالي بـ”وزير الجريمة”
ما يحصل لخان ليس بجديد. فقد سبق وتم استبعاد سلفه، نواز شريف، مدى الحياة من تولي أي منصب سياسي في باكستان (منذ العام 2017). لكن، وبينما غادر شريف البلاد (عام 2019) يواصل خان، سعيه الحثيث للعودة إلى السلطة.
دستورياً، هناك انتخابات عامة مُقرر إجراؤها بحلول خريف عام 2023. وخان يريد إجراؤها في أقرب وقت ممكن للاستفادة من زخم التأييد الحالي له. فإذا جرت اليوم فإن حزب خان سيفوز على الأرجح بشعبية كاسحة في جميع أنحاء البلاد (…). في حين أن الحزب الحاكم يفضل الانتظار لأطول فترة ممكنة، أملاً في أن يتمكن من تحسين الأوضاع الاقتصادية؛ ولو قليلاً؛ وإغلاق بعض تهم الفساد المرفوعة ضد العديد من قادته، حتى لا يلقي الناخبون بكل اللوم عليه.
وتزداد هذه الحسابات تعقيداً بسبب الجيش، الذي دخل الآن علانية في المعركة. فللرد على مزاعم خان بشأن وفاة الصحافي شريف في كينيا، اضطرت وكالة المخابرات الباكستانية لعقد مؤتمر صحفي غير مسبوق لكي تعلن نفيها التهم الموجهة لها. كما رفض الجيش علناً تورطه في محاولة الاغتيال التي استهدفت خان. لكن من الواضح أن الجيش ينظر إلى خان على أنه “تهديد جدّي”، بل “وجودي” أيضاً، كونه أصبح قادراً على تفجير غضب شعبي واسع النطاق ضد المؤسسة العسكرية، وبالتالي تقويض هيمنتها على البلاد.
صوت الغضب
الحملة التي يشنها خان ضد المؤسستين السياسية والعسكرية تجعل باكستان منقسمة بمرارة أكثر من أي وقت مضى (…). فمن خلال جعله مكافحة الفساد ومهاجمة سياسات الأسرة الحاكمة الركيزة الأساسية لمشروع عودته إلى السلطة، أعاد خان صياغة السياسة الباكستانية كـ”معركة وجود” (…). صحيح أن “الرابطة الإسلامية” و”الشعب” منافسان رئيسيان لبعضهما البعض، ولكن لم يكن لديهما مثل هذه المخاطر التي يشكلها خان اليوم، وما كنت المنافسة بينهما لتقسم الباكستانيين بهذا الشكل.
خان أصبح أكبر تهديد تشهده المؤسسة الباكستانية على الإطلاق.. الحكومة والجيش يشككان في حكمة الإطاحة به في نيسان/أبريل الماضي
أصبحت المواجهة بين خان من جهة والحكومة والجيش من جهة أخرى مستهلكة بالكامل في وسائل الإعلام والمجال العام. لقد تكشف هذا الصدام بينما ترزح البلاد تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، وتتخبط في حالة من عدم اليقين، لدرجة أن المعركة على السلطة صرفت الانتباه عن ضرورة معالجة تداعيات الفيضانات المميتة التي غمرت ثلث البلاد، أواخر الصيف، وتركت مناطق عديدة منكوبة. ويبدو أن حالة عدم الإستقرار ستستمر حتى الانتخابات المقبلة. وقد يتفاقم أكثر مع تعيين الجنرال عاصم منير قائداً جديداً للجيش، وهو شخص لا يفضله خان. وثمة مخاوف حقيقية من إندلاع أعمال عنف قد يصعب السيطرة عليها؛ لا سيما في ظل ما يعانيه الناس من أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة؛ فبعد كل شيء، باكستان بلد ذو تاريخ مأساوي من الأحداث الآمنة والاغتيالات السياسية.
لربما ما كان خان ليتمتع بالدعم الشعبي الحالي لو أنه بقي في الحكم ولم تتم الإطاحة به في نيسان/أبريل. وربما كان فشل في معالجة الأزمة الاقتصادية. ومن المفارقات، أن الحكومة الحالية والمؤسسة العسكرية بدأتا تشككان في حكمة حملة الإطاحة به.
ولسوء حظ الباكستانيين، لم يترك هذا الإقتتال السياسي المتواصل مجالاً للحل. فليس لدى أي من الجانبين خطة اقتصادية ملموسة من شأنها إخراج باكستان من أزمات ديونها المتكررة واعتمادها على المانحين الأجانب. قد تكون السياسة هي هواية الباكستانيين المفضلة، لكنهم يفتقرون للخيارات الجيدة في ما يتعلق بقيادة بلادهم. وبغض النظر عمَّن سيصل إلى السلطة في الانتخابات المقبلة، من غير المرجح أن تتغير الحقائق المسببة لتردي الأوضاع في البلاد وشلّ مشاريع التنمية.
من غير الواضح كيف سينتهي هذا الصراع على السلطة. ويبدو أن المحادثات التي جرت بين خان والجيش (بشكل سرّي) قد فشلت. فطوال الفترة التي انقضت منذ أن فقد خان منصبه، تصاعدت التوترات السياسية وأصبحت قاب قوسين من الإنهيار، كما حدث في آب/أغسطس عندما أرادت السلطة اعتقال خان بتهمة الإرهاب، أو في الليلة التي أعقبت تعرضه لمحاولة إغتيال، حيث خرج مؤيدوه إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد يهددون ويتوعدون. ما هو واضح، هو أن خان أصبح أكبر تهديد تشهده المؤسسة الباكستانية على الإطلاق، وأن هذا العام غير المستقر في السياسة الباكستانية لم يصل إلى نهايته بعد.
– النص بالانكليزية على موقع “فورين أفيرز“.
(*) مديحة أفزال، من معهد “بروكينغز”- برامج السياسة الخارجية، ومؤلفة كتاب: “باكستان تحت الحصار: التطرف والمجتمع والدولة”.