“فورين بوليسي”: ما هو سر مقامرة مودي بين بوتين وزيلينسكي!

فى يوليو/تموز الماضى، زار رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى موسكو واستقبله الرئيس الروسى فلاديمير بوتين باحتضان حار. فى اليوم نفسه، شنّت روسيا غارات جوية فى أوكرانيا، ما أدى إلى إصابة أكبر مستشفى للأطفال ومقتل 41 شخصًا على الأقل. وبرغم أن مودى أشار بشكل مستتر إلى الضربة والضحايا، فإن تعليقه المهدئ فشل فى صرف الانتقادات الدولية - وبخاصة الأميركية - لرحلته وصداقته الواضحة مع بوتين.

فى حديثه فى منتدى للدفاع فى يوليو/تموز الماضى، كان السفير الأمريكى لدى الهند، إريك جارسيتى، حادًا فى انتقاده لمودى، مذكرًا الحضور بأن علاقات الهند بالولايات المتحدة لا يمكن اعتبارها أمرًا مسلمًا به. أما الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، فقد كان أكثر غضبًا بشأن احتضان مودى لفلاديمير بوتين، قائلًا: «إنها خيبة أمل كبيرة وضربة مدمرة لجهود السلام أن نرى زعيم أكبر ديمقراطية فى العالم يعانق أكثر المجرمين دموية فى العالم فى موسكو فى مثل هذا اليوم».

برغم أن نيودلهى تجاهلت علنا الانتقادات، فإن ذلك لم يغب عن جهاز السياسة الخارجية الهندي: ففى يوم الجمعة الماضى، زار مودى زيلينسكى فى كييف. اعتقد مودى أن الوقت قد حان لمحاولة إصلاح العلاقات مع أوكرانيا والغرب. ومن بعض النواحى، فإنها تمثل تحولًا مذهلًا فى السياسة الخارجية الهندية، إذ لطالما كانت روسيا شريكًا موثوقًا به للهند.

الذى يفسر قرار مودى بالقيام بهذه الخطوة، بجانب محاولة صد الانتقادات العالمية هو أولًا، ربما قرر رئيس الوزراء ومستشاروه أن موسكو لم تعد قادرة على تزويد نيودلهى بالمعدات العسكرية التى تحتاج إليها فى الوقت المناسب. ولا تستطيع الهند أن تتحمل العيش فى ظل هذا القدر من عدم اليقين، خاصة أن التهديد من جانب الصين ــ عدوها الرئيسى على المدى الطويل ــ لم يتراجع. وحتى إذا أزعجت زيارة مودى إلى كييف موسكو، فإن نيودلهى قادرة على التعامل مع أى تداعيات سياسية سلبية، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى أن روسيا أظهرت فى ظل الظروف الحالية أنها شريك متذبذب.

من الممكن أيضًا أن مؤسسة السياسة الخارجية الهندية تدرك حقيقة مهمة أخرى، ألا وهى أن جهودها الحثيثة لمنع روسيا من التقارب مع الصين هى فى الأغلب قضية خاسرة. ذلك أن العزلة الدبلوماسية المتزايدة التى تعيشها روسيا مع استمرار الحرب فى أوكرانيا تعنى أن عدد الشركاء الاستراتيجيين المتبقين لديها باستثناء الصين قليل. وعلى الرغم من العلاقات الروسية الهندية العريقة، يتعين على موسكو أن تدرك أن نيودلهى لن تتخلى ببساطة عن علاقاتها المتنامية مع واشنطن والغرب.

***

فى مسعى لتوفير الأساس المنطقى لزيارة مودى إلى روسيا، استشهد صناع السياسات الهنود بالتزام البلاد المعلن بالاستقلال الاستراتيجى. الواقع أن هذه العقيدة تؤكد فى جوهرها على سياسة خارجية مستقلة بشدة، ولكنها فى الممارسة العملية تحولت إلى شعارات، وفى كثير من الأحيان إلى مبرر منطقى لنيودلهى فى سعيها إلى سياسات معاملاتية برجماتية مؤقتة. كان هذا واضحًا بعد الغزو الروسى لأوكرانيا، عندما استشهدت الهند باستقلالها الاستراتيجى لدرء الانتقادات الموجهة إليها بسبب شرائها للنفط الروسى لتلبية احتياجاتها المحلية الحرجة من الطاقة فى الوقت الذى ارتفعت فيه أسعار النفط العالمية.

لكن سفير الولايات المتحدة فى الهند قال إنه «فى أوقات الصراع، لا يوجد شىء مثل الاستقلال الاستراتيجى». وعلى الرغم من التقليل من أهمية مثل هذه التعليقات، فإن المسئولين فى نيودلهى أذكياء بما يكفى للاعتراف بأن صبر الولايات المتحدة على الهند محدود، وأن الخفاظ على صورة جيدة لدى واشنطن هو أيضًا أحد أولويات السياسة الخارجية الهندية، وقد تعكس زيارة مودى إلى كييف ذلك.

فى هذا السياق، يجب ملاحظة أن مودى وبوتين لم يحققا الكثير من الإنجازات الجوهرية فى اجتماعهما. كانت الزيارة مليئة بالاستعراضات، فقد منحت روسيا مودى أعلى وسام مدنى لديها، وسام القديس أندرو الرسول، ولكنه منخفض الأهمية المادية. ورغم أن الهند وروسيا وقعتا تسع اتفاقيات، فقد لاحظ المحللون أن معظمها كانت طموحة وتفتقر إلى الكثير من الثقل. وعدم قدرة رئيس الوزراء الهندى على العودة إلى الوطن بأى إنجازات ملموسة قد أزعج صناع السياسات فى نيودلهى.

ربما تشكك الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب فى قدرة مودى على العمل كوسيط نزيه، نظرًا لقرب الهند من روسيا. ومع ذلك، فإن استعداد مودى للقيام بهذه المبادرة الجريئة فى ظل التوغل الكبير الذى قامت به أوكرانيا مؤخرًا فى الأراضى الروسية قد ينبئ بتحول كبير فى الحياد المدروس للهند فى الصراع. وسيتبين ما إذا كانت الزيارة مجرد زيارة رمزية أم لا فى الأسابيع والأشهر المقبلة

***

فى لقائهما يوم الجمعة الماضى فى كييف، عانق مودى الرئيس الأوكرانى. كانت هذه أول زيارة لأوكرانيا من قبل أى رئيس وزراء هندى منذ أعلنت كييف استقلالها فى عام 1991. قال زيلينسكى إن هذا يوم «تاريخى» و«مميز»، وشكر الهند على دعمها لسيادة وسلامة أراضى أوكرانيا، وحث مودى على الانضمام إلى رؤيته «للسلام العادل» المكونة من عشر نقاط، وأضاف: «إن مسألة إنهاء الحرب والسلام العادل هى الأولوية بالنسبة لأوكرانيا»، مؤكدًا أن كييف تسعى إلى إنهاء الحرب بشروطها، وليس بشروط روسيا.

إقرأ على موقع 180  أمريكا ـ الصين من الغموض إلى "الوضوح الاستراتيجي"

من جانبه، ركز مودى على إمكانات المفاوضات المستقبلية، وعرض دوره كصديق للدفع من أجل السلام، قال: «لا يمكن العثور على طريق الحل إلا من خلال الحوار والدبلوماسية، ويجب أن نتحرك فى هذا الاتجاه دون إضاعة أى وقت. يجب على الجانبين الجلوس معًا لإيجاد طريقة للخروج من هذه الأزمة». كما زار النصب التذكارى للناشط الهندى مهاتما غاندى فى كييف، مؤكدًا تركيزه على تحقيق السلام.

ومع ذلك، تستمر العلاقات الوثيقة بين الهند وروسيا فى تقويض دعواته للسلام. فقد تفوقت الهند على الصين الشهر الماضى لتصبح أكبر مستورد للنفط الروسى فى العالم، كما تعد روسيا موردًا رئيسيًا للأسلحة للهند، ويظل الكرملين شريكًا قديمًا فى المساعدة فى موازنة علاقة نيودلهى المتوترة مع بكين. ولهذا السبب، امتنع مودى عن إدانة غزو روسيا صراحة.

فى 19 أغسطس/آب الجارى، قال وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، إن محادثات السلام أصبحت غير واردة بسبب التوغل المفاجئ لأوكرانيا فى الأراضى الروسية فى السادس من الشهر نفسه. وأكد ديمترى ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، أنه لن تكون هناك مفاوضات حتى يتم هزيمة أوكرانيا تمامًا فى ساحة المعركة. كانت كييف قد أشارت فى وقت سابق إلى أن التقدم نحو كورسك كان يهدف إلى منح أوكرانيا نفوذًا فى المحادثات المستقبلية.

بزيارته لكييف، ربما يرغب مودى فى إرسال إشارة إلى روسيا مفادها أن علاقاتها الثنائية مع الهند لا يمكن اعتبارها أمرا مسلما به. ونظرا للمبادرات الروسية الأخيرة تجاه خصم الهند الآخر، باكستان، وعجز روسيا عن دعم عمليات نقل الأسلحة التى تشتد حاجة الهند إليها، فإن نيودلهى لديها ما يدعوها إلى إعادة النظر فى اعتمادها على موسكو. ومن عجيب المفارقات أن مثل هذه الخطوة قد تظهر درجة من الاستقلال الاستراتيجى الحقيقى فى السياسة الخارجية الهندية.

ومع ذلك، وفى ظل تعنت روسيا، فقد يتبين أن مساعى مودى الدبلوماسية قد تكون بلا جدوى. وربما تشكك الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب فى قدرته على العمل كوسيط نزيه، نظرًا لقرب الهند من روسيا. ومع ذلك، فإن استعداد مودى للقيام بهذه المبادرة الجريئة فى ظل التوغل الكبير الذى قامت به أوكرانيا مؤخرًا فى الأراضى الروسية قد ينبئ بتحول كبير فى الحياد المدروس للهند فى الصراع. وسيتبين ما إذا كانت الزيارة مجرد زيارة رمزية أم لا فى الأسابيع والأشهر المقبلة.

(*) المصدر: بالانكليزية عن “فورين بوليسي“؛ الترجمة إلى العربية عن صحيفة “الشروق” المصرية

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الشمال السوري: تحولات تنذر بتكرار "السيناريو القبرصي"