حتى لا تبقى العربية.. لغة حكايات

هل يمكن أن نجعل العربية لغة علمية؟ الجواب بسيط وسهل ولكنه يتطلب صاحب وصانع قرار.

إنه عمل يتطلب دعم مراكز التعليم والثقافة والمعرفة في المجتمع العربي، لنقل العلوم كل العلوم المتوفرة إلى العربية، بأسلوب سلس ومتدرج مع المراحل التعليمية الأولى عبر تطوير المناهج الدراسية، وبناء ثقافة مجتمع متنور بحيث تكون شاملة كل أفراد المجتمع العربي، كبارهم وصغارهم رجالهم ونساءهم، مع الإلتزام بضوابط المجتمع الأخلاقية والدينية، وأن يكون العمل العلمي بعيد عن التجاذبات السياسية والإقليمية الضيقة ومشاركة كبيرة من كافة القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة

دعم مراكز التعليم والثقافة والمعرفة

وفي الشرح المبسط لذلك فإن دعم هذه المراكز يكون مسؤولية تشمل كافة مرافق المؤسسات الحكومية في بلادنا (وزارات ومعاهد وجامعات) وقد تكون الترجمة هي من أدوات هذا الدعم ومثال على ذلك، وفي محاولة لإلقاء الضوء على تطور الترجمات اليدوية والرقمية لدينا لا بد من فتح باب النقد الذاتي البناء عما نحن فيه.

في العادة، توصف الترجمة على أنها سفينة تنقل الكنوز من حضارة إلى حضارة ومن منطقة إلى أُخرى، فـ بها تُكتشف ثقافات الحضارات الأخرى، وبها يستفاد من علوم وفنون الدول الأخرى، وبدونها لا يمكن التعرف على الآخر معرفة حقيقية.

وفي ظل عصر الانفجار المعرفي تكنولوجياً اليوم، فإن أهمية الترجمة تصبح ضرورة مركزية للحاق بالركب العلمي، وهو ما يحتاجه العالم العربي بشدة في ظل التراجع الذي نتخبط فيه.

حجم المعارف الغائبة

في دراسة صادمة أنجزتها اليونسكو حول الحصيلة الكلية للترجمة إلى العربية، تفيد بأن ما ترجم للغة العربية منذ عصر المأمون سنة 813م. إلى اليوم، لم يتجاوز العشرة آلاف كتاب، وهو عدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة فقط. وما تترجمه الدول العربية مجتمعة في سنة لا يعادل خُمس ما تترجمه اليونان وحدها سنوياً.

إن إنتشار الثقافة العلمية باللغة العربية مسؤولية تشاركية بين القطاع العام (وزارت، مراكز بحث، جامعات وغيرها)، وبين القطاع الخاص (شركات خاصة، مؤسسات إعلامية، دور نشر وغيرها)، وذلك لأن الفائدة ستنعكس في حال عمّت على كل قطاعات المجتمع

وفي دراسة إحصائية أخرى أعدها فريق من الباحثين حول الكتب المترجمة بدور النشر، خلال الفترة ما بين 2000م. و2009م.، توصلت إلى أن مجموع الكتب التي نُقلت إلى اللغة العربية لم يتعد 3.000 كتاب، في حين تترجم إسبانيا 10.000 كتاب في السنة الواحدة، وهنا نرى حجم الخسارة الهائلة الذي تعاني منها المكتبة العربية، فإن مجمل الكتب العربية المترجمة خلال عشر سنوات لا يعادل نسبة 1% من الكتب الصادرة سنويًا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وعلينا أن نتصور حجم المعارف والعلوم الغائبة عن إدراك القارئ العربي.

إن واقع الترجمة في العالم العربي مؤلم جدًا ويتسم بالفوضى والعشوائية، كذلك فإن حركة الترجمة العربية لا تعاني فقط كميًا وإنما نوعيًا أيضًا.

فعلى سبيل المثال، أغلب الكتب المترجمة للغة العربية لا تدخل في باب العلوم، وإنما يحظى الأدب بالقسط الأوفر، نظرا للهاجس التجاري عند دور النشر من عدم القدرة على البيع.

كما أن حركة الترجمة العربية لم تصل إلى مستوى الاحترافية، إذ غالبًا ما تكون نتيجة جهد فردي، وقليلة جداً هي المؤسسات العربية المتخصصة في الترجمة.

المشروع التنموي العربي

لعل أبرز الأسباب المسؤولة عن تخلف نشاط الترجمة في العالم العربي، هو افتقاد هذا النشاط لمشروع تنموي عربي واضح وشامل، يتناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي غياب الإرادة في تنمية الوعي العلمي الشعبي، والارتقاء به إلى الوعي الضروري لمواكبة الحضارة التكنولوجية.

ويمكن أن يكون العامل الاقتصادي أيضا قد ساهم في تعطيل عجلة الترجمة العربية، إذ يتسبب نقص التمويل في إجهاض العديد من مشاريع الترجمة، مما يقلل الإنتاج المترجم باللغة العربية. ويرجع ذلك إلى عدم ثقة بعض المؤسسات الحكومية والنخب المالية في الاستثمار بمراكز الترجمة، كمشاريع منتجة.

وبما أن عملية الترجمة في الوطن العربي هي جزء من الإنتاج الثقافي والعلمي، فإضعافها يعني إضعاف ثقافة القراءة والمعرفة العلمية وينعكس رداءة في أنظمة التدريس والتعليم، وهنا ندخل إلى العنوان الآخر.

تطوير المناهج الدراسية

تعاني كثير من مناهج التعليم العربية من بطء في حركة التحديث لها لتواكب كل جديد يطرأ علمياً وعالمياً، وقد حاولت بعض من وزارات التربية والتعليم القيام بتطوير مناهجها إلا أن سرعة ما يجري حولنا وعدم القدرة على التحديث الفوري المرتبط ببيروقراطية العاملين حول صنّاع القرار، تبطىء العملية كلها، ومن المهم جداً هنا إخراج هذا العمل من الروتين الحكومي وإعطاء المجال وحرية الحركة في التطوير لمن هم أكفاء في ذلك.

الشمولية لكل أفراد المجتمع

وتطوير التعليم سينعكس تلقائيا على كافة أفراد الأسرة التي ستتأثر بما يتلقاه أبناءها من تطوّر علمي في التعليم، إن في المدارس أو في المعاهد والجامعات، فيكون العمل قد أخذ شمولية الانتشار في المجتمع للكبار والصغار وللنساء كما الرجال وهذا ما يدفع بمجتمعنا إلى الرقي العلمي والمعرفي، مع الأخذ بضرورة وجود ضوابط أخلاقية يختص بها المجتمع العربي تمنع الانحراف عن الغاية الأساس وتأخذ الثقافة العلمية لمنحى غير أخلاقي وإنساني.

إقرأ على موقع 180  الوجه الآخر للعروبة.. الإنتماء الأول للدولة

البعد عن التجاذبات 

من المهم جداً حين نتحدث بلغة عربية علمية وبثقافة مجتمعية أن نخرج من التجاذبات السياسية والإقليمية فحين نتحدث عن العلم نتخطى الانتماءات المناطقية والسياسية لأنها ليست حكراً على دولة أو مجموعة بل هي لكل المجتمع المتحدث باللغة العربية.

مسؤولية تشاركية

إن إنتشار الثقافة العلمية باللغة العربية مسؤولية تشاركية بين القطاع العام (وزارت، مراكز بحث، جامعات وغيرها)، وبين القطاع الخاص (شركات خاصة، مؤسسات إعلامية، دور نشر وغيرها)، وذلك لأن الفائدة ستنعكس في حال عمّت على كل قطاعات المجتمع.

في النهاية، مهما طالت الأيام لا بد من أن نجد طليعة تتضافر فيها الجهود فردية كانت أم على مستوى المؤسسات لتحقيق نقلة نوعية في لغتنا العربية فلا تبقى لغة حكايات وقصص وروايات بل تصبح أيضاً لغة علمية حقيقية لأجيال قادمة بإذن الله.

(*) بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، في 18 كانون الأول (ديسمبر).

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

إعلامي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  من النكبة إلى شيرين.. صراع وجودي مستمر