

من المنتظر أن يُوفّر اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان خاتمة لمسلسل من الحروب والتوترات الأمنية والسياسية عمرها أكثر من مائتي سنة وشاركت فيها أطراف دولية كبريطانيا والاتحاد السوفياتي السابق والخلافة العثمانية. وحسب رواية يريفان، فإن جمهورية أرمينيا ترغب في أن تشمل منطقة ناخيتشيفا المناطق الأساسية من البلد (شرق أرمينيا) وبالتحديد محافظة يريفان كما ترغب في تملك الأجزاء الشرقية والجنوبية من محافظة إليزابيثبول، وفي المقابل، ترفض أذربيجان ترفض هذه المعطيات وتُؤكد على وحدة أراضيها وحقها السيادي على كل تلك المناطق.
الجدير ذكره أنه خلال العامين الماضيين خاضت أذربيجان حرباً مع أرمينيا لاستعادة اقليم قرباغ المتنازع عليه بينهما، وتمكنت بمساعدة تركيا من احتلال الإقليم وطرد السكان الأرمن منه، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق لوقف النار والاعتراف بالسيادة الأذربيجانية علی الإقليم.
ومع بدء ولايته الثانية، مطلع هذه السنة، قرّر ترامب الدخول على خط الأزمة بين باكو ويريفان حيث بذل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بمساعدة مندوب الرئيس الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف جهوداً للتوصل إلی اتفاق بعدما قرّرت موسكو الوقوف على الحياد، ومن ثم انتظار المباحثات المنتظرة التي سيجريها الرئيسان الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في آلاسكا في الخامس عشر من هذا الشهر والتي ستكون مخصصة بالدرجة الأولى للملف الروسي الأوكراني.
يُشكّل “ممر ترامب” تحدياً جيوسياسياً وجيوستراتيجياً للجمهورية الإسلامية بسبب سيطرة الأميركيين علی هذا الممر الحيوي الذي يبدأ من الأراضي التركية وصولاً للعاصمة باكو القريبة من بحر قزوين مروراً بالأراضي الأرمينية الجنوبية، أي أن الممر صار أميركياً شكلاً ومضموناً وإسماً ولم يعد أرضاً أرمينية
وبموجب الإتفاق الأذربيجاني الأرميني، ستتولى الولايات المتحدة إدارة الطريق الممتد من تركيا شمالاً إلی العاصمة الأذرية باكو مروراً بـ”ممر زنغزور” في الأراضي الأرمينية، على أن يخضع هذا الممر لإدارة الأميركيين لمدة 99 عاماً. وإذا ما عرفنا أن هذا الممر يمتد حتى حدود إيران الشرقية، فهذا يعني أن الولايات المتحدة ستكون جارة إيران لمدة 99 عاماً علی حدودها الشمالية الشرقية.
هذه المقاربة السريعة كانت مهمة للتدليل على تداعيات مثل هذا الاتفاق علی الوضع الجيوسياسي في منطقة تتواجد فيها اضافة إلی أرمينيا وأذربيجان كلٌ من تركيا وإيران وبحر قزوين، والآن دخلت الولايات المتحدة كطرف في الاتفاق لتثبيته بعد أن أصبح الممر يحمل اسم ترامب بدلاً من “زنغزور” تقديراً لجهود رئيس الولايات المتحدة المتعطش لنيل جائزة نوبل للسلام.
وعدا عن استفادة أرمينيا وأذربيجان من الاتفاق، اقتصاداً وسياسةً وأمناً، فإن تركيا الدولة العضو في حلف شمال الاطلسي (الناتو) ستكون الرابح الأبرز لأن “ممر ترامب” سيربطها بآسيا الوسطی؛ أما إيران، فتعتبر أن هناك من يتحرك عند خاصرتها الرخوة التي تتأثر بمثل هذه التطورات وخصوصاً إذا عرفنا أن إسرائيل ليست بعيدة عن هذه التطورات علی خلفية العلاقات الدبلوماسية التي تمتلكها مع أذربيجان والتعاون المشترك بينهما في مجالات مختلفة، بما في ذلك مكافحة الإرهاب. كما أن هناك تبادلاً تجارياً وسياحياً بينهما، واللافت للانتباه أن إسرائيل وقفت مع أذربيجان في قضية إقليم قرباغ علی حساب أرمينيا التي تمتلك هي الأخری علاقات دبلوماسية مع إسرائيل أصابها شيء من التوتر بسبب موقف تل أبيب من قضية قرباغ.
واستناداً إلی ذلك، يُشكّل “ممر ترامب” تحدياً جيوسياسياً وجيوستراتيجياً للجمهورية الإسلامية بسبب سيطرة الأميركيين علی هذا الممر الحيوي الذي يبدأ من الأراضي التركية وصولاً للعاصمة باكو القريبة من بحر قزوين مروراً بالأراضي الأرمينية الجنوبية، أي أن الممر صار أميركياً شكلاً ومضموناً وإسماً ولم يعد أرضاً أرمينية، وهذا الأمر يُعتبر ركيزة أساسية في اتفاق سلام سيخضع لنوع من السيادة المحدودة أو الإشراف الدولي والإقليمي باعتباره ممراً عابراً للحدود وسيكون معفياً من الرسوم الجمركية ويُمكن للمركبات والقطارات المرور من خلاله دون توقف أو تفتيش علی غرار “الممرات الآمنة” في العديد من مناطق النزاعات في العالم التي تخضع لنفوذ جهة ثالثة لأهداف جيوسياسية.
هذا التطور الذي حدث ويحدث في القوقاز يتزامن مع ما يحدث في الشرق الأوسط من إعادة رسم للخارطة الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية حيث يتم ابعاد إيران عن خريطة الطاقة الجغرافية في المنطقة إضافة إلی استكمال “حزام الإحتواء” لإيران.
اقتصادياً، يساهم “ممر ترامب” في خفض عائدات النقل لأنه يتجاوز الأراضي الإيرانية للربط بين تركيا ودول القوقاز كما أنه يحد من تواصل إيران مع جيرانها الاقليميين في الوقت الذي يستقطب دولاً محاذية لإيران لحشدها في محاور معادية لطهران. لكن المسألة الأمنية والعسكرية تشكل تحدياً خطيراً لإيران، لأن “ممر ترامب” سوف يكون متاحاً للتواجد العسكري الأميركي ولقوات حلف “الناتو” المتواجدة أصلاً في تركيا العضو في هذا الحلف.
صحيح أن طهران رحبت بالاتفاق لأنه ينهي خلافاً تاريخياً مزمناً قرب حدودها الشمالية الشرقية لكنه يضعها أمام تحدٍ كبيرٍ في ضوء المتغيرات التي يشهدها الشرق الأوسط ولا سيما في ضوء التمدد الإسرائيلي المدعوم أميركياً.