ظلّت الحالة متموّجة ترتفع حينًا وتنخفض حينًا آخر، إلّا أنها حاضرة. ومع الذهاب والإياب ثمة منثورات وحكايات تتسرّب من بين ثناياها، اكتمل بعضها ولم يكتمل بعضها الآخر، لكنّني وجدت فيها ما يمكن وضعه على الورق، لتصل إلى القارئ بشكل عام، وإلى قرّاء مهتمّين أيضًا، وذلك مبتغاها، فثمّة إيقاعات ذاتية وتقاسيم مشتركة، ناهيك عن لمسات خاصّة تأتي وتذهب ومعها ذكريات واستعدادات ووقائع وأحداث وتقييمات وشجون تُستحضر، بل تفرض نفسها أحيانًا.
هكذا كانت دردشتي مع نوري عبد الرزاق في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2022 في القاهرة، وأنا عائد من الخرطوم. توجّهت لزيارته بعد أن اضطرّ للعودة إلى منزله لظرف صحّي طارئ، وكنّا قد اتفقنا على اللقاء في أوتيل الماريوت، ثمّ أجّلنا الموعد إلى اليوم الذي يليه. وصلت على الموعد، ضغطت على جرس الباب عدّة مرّات واتصلت به على موبايله الشخصي لكن دون جدوى، فقلقت.. وبعد انتظار لعدّة دقائق، فتح الباب بعد أن استفاق من نوم عميق. استعدت هذه اللقطة حين فتح لي باب منزله في الكرّادة ببغداد قبل ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، وهو ممتلئ شبابًا وحيويّة حينها، بينما فعل الزمن فعله راهناً.
لحظتان مفارقتان بين زمنين استعدتهما إذاً، الأولى في كرّادة بغداد التي قفزت إلى ذهني، والثانية في حي الشيخ زايد بالقاهرة. هكذا داهمتني صور من الماضي في بغداد، وبراغ، ولندن، والقاهرة، وفيينا، وجنيف، ودمشق، وبيروت، وعمان، وديربن، وأخرى معلّقة على جدران غرفة الاستقبال تتحدّث عن تاريخٍ طويلٍ في الحركة الشيوعية وفي محافلها الدولية، من بينها صور مع الزعيم عبد الكريم قاسم، ومع الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ومع بوريس بوناماريوف، حين تسلّم وسام لينين لبلوغه الأربعين عام 1974، وغيرها من الصور.
الصور المتخيّلة في الذهن، وتلك الواقعيّة على الحائط المعروضة في إطارات بطريقة عفوية، هي صورٌ تحفّزك على فتح حوار مع نوري عبد الرزاق المثقّف الموسوعي الرؤيوي لتقليب “أمور الدنيا” كما يعبَّر، بما فيه همومنا وشجوننا الراهنة، دون أن ننسى تاريخنا العام والخاص ونجاحاتنا وإخفاقاتنا. وهو حوار لم ينقطع بينه وبيني طيلة السنوات المنصرمة، بما فيه من تجاذبات وتباينات ومشتركات ورؤى وإعادة قراءة ومراجعة ونقد.
المناضل في فضاء الضوء
لم تتكوّن شخصية نوري عبد الرزاق في الأوكار السريّة أو في السجون والمعتقلات أو من ملاحقة رجال الأمن والشرطة على ما جرت العادة في الأحزاب المحظورة أو غير المرخّصة، وهو الذي كنّا نطلق عليه لقب “مناضل”، بل نشأت في فضاء من الضوء والعلانية، وإن عمل في حزب سرّي لفترة من الزمن في بدايات انخراطه في العمل السياسي. إلّا أن العهد الملكي وبعد الحرب العالمية الثانية شهد نوعًا من الانفتاح النسبي سمح بتشكيل أحزاب علنية منها “حزب التحرّر الوطني”، واجهة الحزب الشيوعي العراقي، إضافة إلى “عصبة مكافحة الصهيونية” التي أسسها يهود شيوعيون معادون للصهيونية، وتمّت إجازتها من وزير الداخلية آنذاك سعد صالح (جريو)، كما أجيز “حزب الشعب” برئاسة عزيز شريف، و”حزب الاتحاد الوطني” برئاسة عبد الفتاح ابراهيم، و”حزب الاستقلال” برئاسة الشيخ محمد مهدي كبّة، و”الحزب الوطني الديمقراطي” برئاسة كامل الجادرجي و”حزب الأحرار” برئاسة سعد صالح بعد استقالة الوزارة. وعلى الرغم من عدم إجازة حزب التحرر الوطني، إلّا أن النشاط كان شبه علنيٍّ في حينها.
داهمتني صور من الماضي في بغداد، براغ، لندن، القاهرة، فيينا، جنيف، دمشق، بيروت، عمان، ديربن، وأخرى معلّقة على جدران غرفة الاستقبال تتحدّث عن تاريخٍ طويلٍ في الحركة الشيوعية وفي محافلها الدولية، من بينها صور مع عبد الكريم قاسم، ومع محمد مهدي الجواهري ومع بوريس بوناماريوف، حين تسلّم وسام لينين لبلوغه الأربعين عام 1974
الوعي الأول
في هذه الأجواء نشأ نوري وتبلور وعيه الأول، وبدأت ملامح شخصيته تتكوّن، خصوصًا وأن ميله للقراءة وانفتاحه على الآخر جعل منه شخصية عامة. ومنذ حماسته الشبابية الأولى ومشاركته في التظاهرات وتعرّضه للاعتقال، كان توجّهه وسطيًا اعتداليًا منفتحًا على الآخر، على الرغم من أجواء التعصّب والتطرّف السائدة على المستوى السياسي آنذاك، فربما كانت الحاجة إلى الحريّات والدعوة إلى التحرّر من ربقة الاستعمار البريطاني هي المحرّك الأساس، خصوصًا في ظلّ أجواء عائلية تشجّع على ذلك.
تعزّزت هذه الشخصيّة خلال عمله في الخارج بعد ذهابه للدراسة في بريطانيا، حيث شارك في الحركة الطلابية امتدادًا لنشاطه في العراق، وأصبح أحد أبرز وجوهها في الخارج. وحين تمّ فصله بسبب موقفه من حلف بغداد عام 1955، اتّجه إلى القاهرة بعد محطة دمشق لفترة قصيرة، وهناك نسج العديد من الصداقات والعلاقات مع القوى المصرية اليسارية والقومية، وكان أحد شباب الحركة الوطنية، بل أنه كان أحد مرجعيات الحزب الشيوعي المقيمة في الخارج والوثيقة الصلة بالداخل من جهة، وبالتيارات العربية وأحزابها المختلفة من جهة أخرى.
ومنذ العام 1956 كانت علاقته تتوطّد مع ياسر عرفات “أبو عمّار”، وظلّت على هذا المنوال حتى ما قبل رحيله بأيام. كما أقام علاقات وطيدة مع منظمة التضامن الأفرو-آسيوي التي تأسست عام 1957 في القاهرة، وتولّى منصب السكرتير العام فيها بعد عقدين ونيّف من الزمن.
وفي مهرجان الشباب والطلاب الذي انعقد في موسكو عام 1957، كان أحد الوجوه الأساسية المنظِّمة لمشاركة الوفد العراقي فيه برئاسة محمد صالح العبلي، والأخير استشهد في العام 1963 بعد انقلاب شباط/فبراير، وكان حينها عضوًا في المكتب السياسي.
وفي القاهرة أصدر كتابًا عن “تيارات الحركة الوطنية في العراق”، ظل يُعتبر مرجعًا حيويًا لتلك الفترة الزمنية، وفيه تحليلات دقيقة لاتجاهاتها وتوجّهاتها يومئذٍ في العراق الملكي.
ثقة سلام عادل
أكسبته تلك السنوات ثقة سلام عادل الذي التقى به في العام 1954 في لندن، والذي تولّى قيادة الحزب الشيوعي العراقي (1955) بعد صراعات حادّة وانشقاقات وتكتّلات، فاستعاد الحزب حيويّته ونشاطه بعد أن تهيّأت ظروف وحدته، وبعد تسوية الخلافات بين مجموعاته وكتله المتصارعة، الأمر الذي وفّر فرصةً مهمةً لكي يلعب دوره على صعيد الحركة الوطنية التي اتحدت في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، والتي ساهمت في التحضير لثورة 14 تموز/يوليو 1958.
خلال سنوات نوري في لندن، تعزّزت علاقاته مع الحزب الشيوعي البريطاني، وتعمّقت ثقافته وصُقلت شخصيته الجامعة المنفتحة العلنية. وبعد الثورة وعودته إلى العراق، كان أحد أبرز الكوادر الشبابية في الحزب، لذلك تمّ اختياره رئيسًا لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في مؤتمره الأول ونائبه الدكتور رحيم عجينة، فقابل الزعيم عبد الكريم قاسم أكثر من مرّة، كما ترأس وفودًا عديدة واستقبل شخصيات عالمية.
وقد عرض عليه بليكان رئيس اتحاد الطلاب العالمي في العام 1960 أن يتولى منصب الأمين العام للاتحاد لمعرفته بكفاءاته وقدراته الفكرية والعملية. وكان نوري هو من ساهم في إقناع اتحاد الطلاب العالمي بعقد المؤتمر السادس في بغداد، ووافقت قيادة الحزب (وأوكلت تلك المهمة الكبيرة إليه، والتي شغلها من العام 1960 إلى العام 1968)، حيث تقرر بعدها عودته إلى بغداد التي وصلها عام 1969، وشرع حينها بالعمل في ميدان العلاقات، إضافةً إلى عمله في مجلّة “الثقافة الجديدة”. وبتكليف من قيادة الحزب تولّى إعادة تأسيس اتحاد الشبيبة، وخلال تلك الفترة التقيناه لؤي أبو التمن وكاتب السطور، وذلك بعد تخرّجنا من الجامعة (1968)، لكن الأمر كان يحتاج إلى تحضيرات طويلة، فتمت إعادتنا إلى قيادة الطلبة، (وشغل ماجد عبد الرضا موقع سكرتير عام الشبيبة الديمقراطي لاحقًا).
محطات مع نوري
توقّفت عند نوري في بعض المحطّات في مرّات سابقة، نشرت بعضها وما يزال بعضها الآخر ينتظر النشر، لكن ثمّة قضايا سارعت لفتح الحوار حولها أو لنقل الدردشة، مؤجلًا بعض ما توفّر لدي وما استقرّ في خزانتي إلى وقت آخر، وإن تداخل بعضها لدرجة التماهي بين الحاضر والماضي.
الدردشة الحالية هي استمرار واستكمال لحوار سابق بعنوان “الذاكرة والزمن الجميل” نشرته بتاريخ 18 و20 تموز/يوليو 2019 في جريدة الزمان (العراقية)، واستكملته بحوار لاحق تواصلًا مع الحوار الأول “المثقف الرؤيوي نوري عبد الرزاق – الذاكرة التاريخية والفرادة الفكرية”، وقد نشر في جريدة الزمان (العراقية) على ثلاث حلقات بتاريخ 30 و31 كانون الأول/ديسمبر 2019 و2 كانون الثاني/يناير 2020.
وفي كلّ لقاء مع نوري عبد الرزاق نبدأ وكأننا في حوار مستمر دون مقدمات ودون بروتوكولات السؤال والجواب، فأنا أسأل وهو يتحدّث، وأحيانًا هو يسأل ليوسّع دائرة الحوار، وهكذا نتبادل المواقع. وفي كلّ مرّة أجد عنده الجديد وغير التقليدي، وغالبًا ما نتّفق على العديد من المنطلقات والتقديرات. وكنت أنتهز هذه الفرصة للتفكير بصوت عالٍ لمناقشة جوانب من تجربته ومعلوماته وعلاقاته ومعارفه لما فيها من محطات ومعلومات عن تاريخنا، فأدقّق فيها فكرة فكرة وأراجع تاريخًا هنا وأتوثّق من مسألة هناك أو أفحص حدثًا ما.
والنقاش مع نوري عبد الرزاق يجعلك تعيش الحدث بدقائقه وتفصيلاته حتى لو لم تعشه، لأنه يأتي إليه من زواياه المختلفة الفكرية والاجتماعية والشخصية وعلاقاته بالمحيط الداخلي والخارجي والتأثيرات عليه، وكيف نظر إليه في حينها وكيف ينظر الآن، وهو لا يبالي في تغيير وجهات نظره وآرائه لأن الحياة لم تُزكِّ بعضها أو لم تُثبت صحّتها، ويقوم بذلك بكل أريحية وخفّة دم وقفشات أحيانًا، الأمر الذي يضعك أمام صدقية ونقد ذاتي ومراجعة للنفس وللغير بروح رياضية عالية دون حقد أو عنعنات أو ادعاءات فارغة، وأحيانًا ينخرط في سخرية لذيذة لبعض مواقفنا بما فيها مواقفه، ويتأمّل ويُعيد النظر ويضحك بهدوء أقرب إلى الابتسامة، ويضع يده على فمه وكأنه يريد أن يُخفي ما أصابه من عاديات الزمن، لا سيّما الأمراض التي هجمت عليه. وسبق أن قلت له وكتبت ذلك أكثر من مرّة “لا تجربة حقيقية دون نقد ذاتي”، فقيمة أي تجربة بنقدها وإعادة قراءتها باستشراف مستقبلي.
إن ذاكرة نوري عبد الرزاق الشفاهية وبعض ما هو مدوّن منها تشكّل إحدى المصادر الأساسية لتاريخ اليسار العراقي بشكل خاص، بل والعربي والعالمي. وكنت قد توقّفت معه عند سلام عادل الذي التقاه في لندن العام 1954 حين كان يدرس الهندسة، وكان نوري حينها عضوًا في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا، ثم أصبح مسؤولًا عنها بعد أنيس عجينة، الذي تمّ فصله بعد إبرام معاهدة حلف بغداد (حلف المعاهدة المركزية – السنتو CENTO” الذي ضمّ العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا).. كما ساقنا الحديث للتطرق إلى بليكان الذي جئت على ذكره أعلاه، وكيف التحق من موقعه كرئيس لاتحاد الطلاب العالمي مع حركة الإصلاح التي بدأها الكسندر دوبتشيك، والذي دعا إلى “اشتراكية ذات وجه إنساني”. وكانت محطة جيفارا الذي التقاه مرتين في كوبا إحدى الانفرادات التي تميّز بها نوري عبد الرزاق، وكان أول من كتب عنه بعد عودته إلى العراق عام 1969 في جريدة “الراصد”، مقدّماً قراءة إيجابية لدوره بغضّ النظر عن التوجّه السائد وقتها، ولا سيّما التوجه السوفييتي الذي قلّل من شأن جيفارا، وهو ما انسحب على الأحزاب الشيوعية. وقد كتب عامر عبد الله نقدًا للجيفارية في مجلّة “الثقافة الجديدة”، انطلاقًا من الرؤية النافذة في الحركة الشيوعية آنذاك واستنتاجاتها المقنّنة.