من الجلي أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ المتعوّد على المشاريع الفخمة والخطابات الانتصارية؛ يجد صعوبة في استعادة مكانة مصر في مجتمع الأمم، وتأمين مستقبل وطني يستند إلى اقتصاد آخذ في التوسع. وبعد عشر سنوات من وصوله إلى السلطة في تموز/يوليو 2013، تأكّدت الشكوك، فقد أزاح الخليج القاهرة دبلوماسياً ومالياً، في الوقت التي تواجه فيه البلاد انهياراً يُذكّر بكوارث أيام الخديوي والباشوات. فكيف وصل الوضع إلى ما هو عليه؟
وصل السيسي، الآتي من المخابرات العسكرية، إلى السلطة بفضل ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. فقد تمت ترقيته أولاً إلى رتبة “مُشير” من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى حكم البلاد بعد سقوط حسني مبارك. ثم عُيّن وزيراً للدفاع من قبل محمد مرسي؛ الرئيس الإخواني الذي لم يدم طويلاً في الرئاسة. فقد اعتقد مرسي؛ وقد كان غير موفق استراتيجيّاً؛ أنه بمقدوره التوافق مع المؤسسة العسكرية، قبل أن ينجح الجيش بتنحيته في انقلاب صيف 2013.
يحتفظ العسكر بذكرى سيئة جدّاً عن نهاية عهد مبارك وترقية قلّة من المقرَّبين من ابن الرئيس، جمال مبارك، الذين استأثروا بالاقتصاد على حساب أفراد المؤسسة العسكرية ثم بدأوا يسعون لتحقيق طموحات سياسية كبيرة. فبعد كظم غيظهم لعدة سنوات، صار العسكر يشعرون أن ساعتهم قد حانت؛ وكانوا محقين في ذلك. فلهم إذا المناصب والثروة.
السراب العقاري
شارك العسكر في اللعبة، فخسروها على ثلاثة أدوار. يحلم السيسي، المفتون بنموذج دول الخليج، بالعقارات والتمويل لتحديث مصر. وهو يفضّل المشاريع الضخمة؛ مثل توسيع قناة السويس أو بناء عاصمة جديدة وسط الصحراء ومدن جديدة أخرى؛ ويطمح في بناء أكبر متحف في العالم عند سفح الأهرامات (المتحف المصري الكبير). ومن المفروض أن تُسدّد أموال أمراء الخليج والائتمانات الصينية تكاليف هذه المنشآت، لفائدة كبرى الشركات العسكرية المكلَّفة بالأشغال الكبرى. في الوقت نفسه، تضع تلك الشركات العسكرية أيديها على مشاريع خاصة مربحة جداً، وتوسّع إمبراطوريتها بشتَّى الوسائل. بالكاد تدفع هذه الشركات؛ المُعفاة من الضرائب؛ أجور اليد العاملة، المكوَّنة في الغالب من مجنَّدي الخدمة العسكرية، ويستخدمون بنوك الدولة التي لا يمكنها أن ترفض لهم طلباً، بل ويستنجدون بالخزينة العامة التي يتم استغلالها بلا حدود، دون إهمال العمليات البوليسية لتخويف أرباب الأعمال “الذين لا حيلة لهم”. ذلك أن الجيش المصري يفتقر إلى نظام تقاعد قوي، قادر على ضمان أسلوب حياة لائق للجنرالات والعقداء الذين يغادرون الحياة العسكرية كل عام. لذا يتوجب إيجاد مناصب ووظائف تؤمن مصدر دخل سهل لهم، قصد تجنب تذمّر جهاز يمكن أن يتحوّل بسرعة إلى تهديد. لكن سيناريو الإنشاءات الفخمة أظهر ضعفه. وأصبحت تحويلات ملايين العمال المصريين في الخليج وأوروبا، ومداخيل قناة السويس والسياح غير كافية لكي تُعيّش مصر.
مصر واصلت، ولمدة عامين ونصف تقريباً خلق الوهم، مظهرة معدل نمو مشرف بحوالي 5%. ثم جاءت في 2021 جائحة كورونا لتوجه ضربة أولى إلى اثنين من أهم مصادر السيولة الرئيسية لدى مصر: اختفاء السياح، وانخفاض حركة الملاحة في قناة السويس بشكل كبير. لكن الأسوأ لم يأتِ بعد
حلقة مفرغة
إذن، يجب إيجاد حلّ آخر. لكن ما هو؟
يفتقر القطاع الخاص؛ الذي استنزفه العسكر من خلال منافسة غير عادلة؛ إلى الديناميكية. ولن تكون آفاق ثروة الغاز، التي فتحها اكتشاف حقل كبير في شرق البحر الأبيض المتوسط عام 2015 (حقل “الزهور” الذي تُقدَّر احتياطياته بـ 850 مليار متر مكعب) مهمة إلَّا على المدى الطويل، بسبب صعوبات الاستغلال. وكان يجب أن تقتصد مصر في استهلاك الطاقة داخلياً للاستفادة بشكل أكبر من صادراتها.
المستثمرون الأجانب يشعرون دائماً بالحذر. والآن تطالب دول الخليج بعائد على الاستثمار، وهي التي دفعت بالفعل الكثير من الأموال من أجل ضمان الإقصاء النهائي لجماعة الإخوان المسلمين. وكون أن القطاع الإنتاجي بقي مهملاً لفترة طويلة جداً بسبب المنطق الريعي (المحروقات، السياحة، مداخيل القناة)، فإن قيمة الصادرات متواضعة، وهي بالكاد تفوق صادرات الجارة تونس. لذا كانت النتيجة انهياراً فعلياً للجنيه المصري مقابل العملات الصعبة، مما يجعل تمويل الاقتصاد غير ممكن. وبالتالي دخلت مصر في حلقة مفرغة.
في كانون الأول/ديسمبر 2016، قدّم صندوق النقد الدولي مخرجاً: قروض بـ12 مليار دولار مقابل تخفيض حاد في دعم الوقود والمواد الغذائية إلى جانب حزمة من الإصلاحات الهيكلية التي سبق وأُعلن عنها في الماضي، لكنها بقيت مجرّد نوايا خوفاً من آثارها الاجتماعية المزعزعة. والأهم من ذلك، فإن الاتفاقية تمهّد الطريق لأموال جديدة. تشكّل سندات الخزينة ذات الأجل القصير للغاية (من شهر إلى 6 أشهر، وبشكل استثنائي حتى سنة واحدة) مخاطرة محدودة للمدخرين العرب والأوروبيين والأميركيين، بسبب قصر مدتها ومعدلات فائدة هي من بين الأعلى في العالم (ما بين 15 و17%).
لقد زجَّ السيسي نفسه في هذه الفرصة الخطيرة بملء إرادته. وفي غضون أشهر قليلة، تدفق ما بين 20 إلى 30 مليار دولار إلى خزائن الدولة، بينما تدهورت حياة المصريين اليومية، خاصة الطبقة الوسطى، نتيجة للتأثير المزدوج لارتفاع أسعار المنتجات المستوردة والتقليص الحاد في نفقات الدعم. غير أنّ مصر واصلت، ولمدة عامين ونصف تقريباً خلق الوهم، مظهرة معدل نمو مشرف بحوالي 5%. ثم جاءت في 2021 جائحة كورونا لتوجه ضربة أولى إلى اثنين من أهم مصادر السيولة الرئيسية لدى مصر: اختفاء السياح، وانخفاض حركة الملاحة في قناة السويس بشكل كبير. لكن الأسوأ لم يأت بعد.
تحفظات صندوق النقد الدولي
في شباط/فبراير 2022، بدأت الحرب الروسية-الأوكرانية. وفي غضون أيام قليلة فرَّ “المال الساخن” (**) من مصر لفائدة الدولار، وأصبحت الثغرة في احتياطات الصرف وميزان المدفوعات لا تُطاق. وفي آذار/مارس، قام البنك المركزي بتقنين تسليم العملة الخضراء، إذ لم يعد كافياً أن تمتلك الجنيه المصري لشرائها، بل يتعين الحصول على الضوء الأخضر من السلطات النقدية. وهكذا تراكمت شحنات من البضائع في الموانئ، تصل قيمتها إلى أكثر من 10 مليارات دولار، بانتظار تسوية ما. لقد لجأت القاهرة إلى صندوق النقد الدولي؛ الذي كان أكثر شراسة هذه المرة من 2013. طلب المصريون 9 مليارات دولار، فعرض الصندوق 3 (أكثر بقليل مما يقترحه على تونس التي يقل عدد سكانها عشر مرات). كما طالب بإصلاحات أكثر صرامة من المرة السابقة، بما في ذلك توقف تدخل البنك المركزي في سوق الصرف الأجنبي لدعم الجنيه. كذلك واصل الصندوق الدعوة إلى خصخصة القطاع العام. وقد كان حذّر، في ربيع 2021، من أن الأمر يجب أن يشمل “كل القطاعات، بما في ذلك الشركات العسكرية”.
أصبحت المسألة بالنسبة للسيسي قضية سياسية. فكيف يُرضي صندوق النقد الدولي من دون أن يُنَفر منه مؤيدوه العسكريين؟ كيف يمكن إقناع الشركات التي يديرها الجيش والتي قد تطرح في السوق بتقديم حسابات شفافة للمشترين المحتملين؟ كيف يمكن ضمان أن دول الخليج، التي ازدادت ثراء نتيجة لآثار حرب أوكرانيا على أسعار النفط والغاز، لن تستغل البلاد على حساب السيادة التي يتظاهر الجيش بأنه الوصي الرئيسي عليها ومن ضامنيها الأوائل؟
أمام هذه المعضلة التي تفتقر إلى أي حلّ، وفي محاولة منه لفعل المستحيل، ضاعف الرئيس من عمليات صرف الأنظار، وفي كانون الأول/ديسمبر 2021 انتقد “الإدارة غير الفعَّالة” (المستمرة منذ منذ 40 سنة) لـ 943 شركة عمومية و52 هيئة تنظيمية، داعياً جميع المصريين للمشاركة في عملية الإصلاح “الوشيك”.
وفي 4 كانون الثاني/يناير 2023، وتطبيقاً لإتفاقية صندوق النقد الدولي، توقف البنك المركزي عن دعم الجنيه؛ الذي إنخفض بشكل حاد في الأيام التالية. واقتربت الأسعار من تلك المعمول بها في السوق السوداء (من 30 إلى 31 جنيه للدولار الواحد)، ويهدد إنعدام الثقة في السلطات بإنهيار العملة الوطنية.
انتقادات علانية أكثر فأكثر
حرّرت الأزمة الانتقادات التي صارت مسموعة أكثر، كونها أصبحت غير معتادة في بلد تتعرض فيه فيه كل أشكال المعارضة للقمع وبشدة. وبعد الترقب الذي أثاره الخطاب المبتهج حول الدورة الـ27 لـ”مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي- 2022″، التي نُظمت في شرم الشيخ في تشرين الثاني/نوفمبر؛ وهو حدث من شأنه أن يشكل الذروة بالنسبة لمصر ويجلب رؤوس الأموال؛ وفقاً لأقوال السلطات؛ استيقظت البلاد على خيبة.
لقد غيّر السيسي النغمة بشكل ملحوظ. انتقل خطابه من “الانتصارية” إلى “الدفاعية الشديدة”: الصعوبات التي تواجهها البلاد ما هي إلا نتيجة لعوامل خارجية فقط (جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا). صار الرئيس يهدّد ويحذّر من أنه على المصريين الكف عن “الثرثرة”، وهي عبارة لقيت استهجاناً، وأُعتبرت مُهينة للشعب المصري. كما استُهجن الحث على استهلاك أرجل الدجاج (وهي طريقة لدعوة المصريين إلى الاكتفاء بالقليل) التي لم تُقدر منافعها الغذائية حتى الآن، وانتشر التهكم بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي.
بعد عشر سنوات من السلطة، يبدو أن “الرئيس المشير” بدأ يواجه واقع نظامه وهو شبه محاصر. من المستحيل الإستمرار في تسمين الهرم الأعلى للمؤسسة العسكرية إذا كانت هناك نية في إعادة الاقتصاد إلى سكة التنمية، ولو بطريقة متواضعة. يجب على الرئيس السيسي الاختيار، وهذا ما قد يكلفه غالياً.
(*) جان بيار سيريني، صحافي ومدير سابق لمجلة “لو نوفيل إيكونوميست” Le nouvel Economiste ورئيس تحرير سابق لمجلة “الإكسبريس”. L’Express. له كتب عديدة حول مواضيع مختلفة منها المغرب العربي والخليج والطاقة وأرباب العمل والجمهورية الخامسة.
(**) تشير الأموال الساخنة إلى العملة التي تتحرك بسرعة وبشكل منتظم بين الأسواق المالية، مما يضمن للمستثمرين تأمين أعلى أسعار فائدة قصيرة الأجل. تتحول الأموال الساخنة باستمرار من البلدان ذات معدلات الفائدة المنخفضة إلى البلدان ذات المعدلات الأعلى.
– بالتزامن مع “أوريان 21“