أعترفُ أنني سمعتُ خلال أيام قليلة كلمات في مناسبات عديدة كثيراً ما استبعدت من قواميس الكلام السياسي أو غابت عن الحضور في وجود صغار السن وحديثي التجربة. سمعتُ لغة في خطب رؤساء لم أسمعها من زمن، وقابلت سياسيين وإعلاميين يتفوهون بما لم تتعود أذناي التقاطه أثناء حوارات يجريها رجال ونساء من المنتمين لهذا الفريق أو ذاك.
لن أطيلَ في هذه المقدمة فأنا مطمئن، وإن كنت مثقلاً مثل كثيرين ببعض القلق وضعف اليقين والخوف على المصير مما نراه من حولنا وبين جنباتنا؛ مطمئن إلى أن هذا الشرق الأوسط ـ الذي أحمل بعض همومه ـ أنجب، وسوف يستمر في إنجاب عباقرة لكل زمان من أزمنته المتباينة ومن كل عرق من أعراقه المتعددة.
استفدتُ من فسحة في قلق كان متعاظماً ومن رغبة جامحة في أن أخرج إلى أصدقاء وزملاء سابقين وحاليين وخبراء لامعين في دراسة ومتابعة وفهم ما يفكر فيه المختصون والمسئولون لأسأل عن بعض ما قصّرت خبراتي عن فهم كل أو بعض ما يدور في أذهانهم، أسأل عن حصيلة ما سمعوا أو خلاصة ما توصلوا إليه بعد تمحيص وتعب.
جمعتُ نتفًا من هنا وهناك، جمعتها وفي ظني أنك إذا جمعتها كما فعلت أنا فسوف تشاركني الرأي في حالنا اليوم وفيما يجب فعله في الفترة القادمة، للتخفيف من وقع زماننا علينا ورفع المعاناة عن شعوب هذا الإقليم ربما باستثناء شعب أو آخر قرر بحسم وحزم وإجماع أنه غير معني بسلام غير سلام يفرضه هو بالقوة والغدر وإبادة أو تهجير أصحاب الأرض وغير مهتم بتحقيق رخاء لأحد غيره في كل أنحاء الشرق الأوسط وربما في العالم.
***
خلصتُ من الردود على استفساراتي وتحفيزاتي بالآتي:
أولاً؛ قد نختلف مع حكومة المملكة العربية السعودية حول سياسة أو أخرى أو قضية أو أخرى أو في ظرف أو آخر، ولكننا وبالتأكيد لم نشعر بالرضا في كل مرة سمعنا رئيس جمهورية الولايات المتحدة، وكانت في يوم من الأيام دولة عظيمة كما يقول هو نفسه وكما يعلن السياسيون في الحزب الجمهوري الأمريكي وكما تقول كتب السياسة، سمعناه يتحدث بلهجة ساخرة عن السعودية وعن قادتها. كثيرون أو قليلون في مصر وبلاد العرب والشرق الأوسط يختلفون مع حكومة المملكة حول الكثير من القضايا والتوجهات، لا أحد من هؤلاء تعاطف مع اللهجة الساخرة التي استخدمها الرئيس الأمريكي في كل مرة تحدث فيها عن المملكة. قال أحدهم عن الرئيس الأمريكي، أخيراً جاء من الخارج يُوحّدنا في موقف من دولة شريكة لنا في الشرق الأوسط.
***
تسود نبرة شك كبير في قدرة ترامب على الاستمرار في أدائه المسرحي وتحقيق أهدافه الشعبوية. أمريكا بعد سنوات من الانحدار المتواصل باعترافه واعترافات غيره لن تتحمل طويلاً مغامرات ترامب ونزعاته السلطوية وأساليبه “التحتية” خلقاً وأفعالاً. استطاع الرجل أن يثير الغضب ويحشد التوتر في عالم منهك نتيجة سنوات من التعامل في نظام دولي تعمه الفوضى
ثانياً؛ سألتُ سؤالاً له علاقة بالتطورات الإيجابية الأخيرة المتعلقة بنظام الحكم في لبنان. أغلب الردود جاءت مرحبة وإن اعترفت هذه الأغلبية أنه ما كان يحدث هذا الاختراق لسنوات من الميوعة وتدهور الحال في لبنان لولا تدخل قوي ومنسق من الخارج، شاركت في تنسيقه وإخراجه وتنفيذه دول كبرى عديدة ودول عربية تتمتع بنفوذ في لبنان والمنطقة.
إلى هنا، لا تُضيف الردود جديداً ولا ظنوناً أو شكوكاً. ردٌ واحدٌ أثار في نفسي موجة عارمة من التوتر حين أضاف كلمات عديدة، من بينها ما معناه “لا يجوز أن نغفل عن وجود رابط غير واضح المعالم وربما غير مؤكد بين الجهد المشترك لإعادة الاستقرار في لبنان وبين الضغط الذي فرض على رئيس محكمة العدل الدولية (نواف سلام) ليغادر منصبه في لحظة حرجة جداً في تاريخ المحكمة وانشغالها بدراسة ملف قضية الإبادة المتهمة فيها إسرائيل. لا شك أن ضغطاً أمريكياً أو غربياً هائلاً فرض وضعاً استثنائياً تسبب في الإبعاد المتعمد لرئيس المحكمة من دوره وقضيته، فهذا القاضي تحديداً ما كان ليغادر من تلقاء نفسه لأي ظرف أو سبب. هل بينكم من ما زال يحلم بحكم عادل يصدر عن المنظمة في يونيو/حزيران القادم”.
***
ثالثاً؛ استنكرت كافة الردود الدعوة الخبيثة والمتكررة منذ أيام النكبة من جانب دول الغرب الموجهة للدول العربية لاستقبال المهاجرين الفلسطينيين. ذهبت ردود إلى سرد معلومات تؤكد أن الضغوط على العرب في هذا الشأن تعود إلى ما قبل قيام إسرائيل ونشوب الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وجاء في رد من الردود أن مشروعا أحيل وقتها إلى مصر ودول أخرى يقضي بطلب الموافقة على الانضمام إلى صندوق كذلك الذي طرحته أمريكا لإنعاش أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وأطلق عليه “مشروع مارشال”، بشرط أن توافق الدول العربية وممثلو الفلسطينيين على تهجير الشعب الفلسطيني إلى مواقع في دول عربية، منها مصر والأردن، حدّدها المشروع. رفضته الدول العربية وقتها وترفضه الآن. وفي كل مرة يتقرر تأجيل تنفيذه في انتظار ظروف أفضل. يسود الظن الآن بأن الظروف الأفضل تحققت خصوصاً وأن من يتحكم بأمريكا حالياً هم مجموعة مقاولي إنشاءات ومغامري استثمارات في مشروعات ترفيه ودعارة وفنادق للقمار، وصارت غزة ركاماً والإبادة فيها وفي بقية فلسطين لا تتوقف.
***
رابعاً؛ تقول الردود أن أكثر أصحابها فوجئوا بالمقاومة تخرج من جديد. تخرج هذه المرة من تحت الركام وفي شكل شعب هادر يتحرك كله في وقت واحد، يرفض أوامر الاحتلال العسكري والتهديد بالإبادة. حرق خيامه فلن يعود إليها فركام بيوته أفضل لسكنه وسكن أولاده. منظر غريب وفريد، منظر أمة تبعث من جديد لترد على حملة التهجير وعلى أصوات خائبة صادرة من قنوات تلفزيونية هشة، منظر أمة تبعث من جديد لتحيي المقاومة ليس فقط في فلسطين ولكن في عروق شعوب كثيرة. تكاد الردود تجمع على أنه لن يقوم هنا شرق أوسط جديد على ذوق ومزاج إسرائيل وأمريكا.
***
خامساً؛ تسود في الردود نبرة شك كبير في قدرة ترامب على الاستمرار في أدائه المسرحي وعلى تحقيق أهدافه الشعبوية. أمريكا بعد سنوات من الانحدار المتواصل باعترافه واعترافات غيره لن تتحمل طويلاً مغامرات الرئيس ترامب ونزعاته السلطوية وأساليبه “التحتية” خلقاً وأفعالاً. استطاع الرجل أن يثير الغضب ويحشد التوتر في عالم منهك ومتعب نتيجة سنوات من التعامل في نظام دولي تعمه الفوضى ويفتقر إلى مؤسسات دولية فاعلة. أتى الرئيس ترامب ليؤكد نزعته المعادية للمؤسسات الدولية بكل أشكالها. لا منظمة صحة عالمية ولا “أونروا” ولا مؤتمرات مناخ ولا منظمة تجارة عالمية بل حروب تجارية عالمية وحرائق وموجات جفاف وفيضانات وعودة صريحة للاستعمار بكل أساليبه العتيقة والوحشية.
***
أخشى، كما عبر الكثيرون، أن نكون على أبواب عالم مجنون، مجنون، مجنون.