“ستاري انكليسكي دفور”، أو المجمع الإنكليزي القديم، كان مقراً لشركة موسكو التي تأسست عام 1555 وأنيط بها فتح أبواب العلاقة التجارية بين بريطانيا وموسكو، ومنها انطلق مبعوثون نحو الإمبراطورية الصفوية التي كانت تمتد حدودها إلى غرجستان أو ما يعرف اليوم بجورجيا. لم تستقر العلاقة مع إيران إلا في عهد الشاه عباس الأول الذي فتح عاصمته الجديدة أصفهان أمام الأخوين روبرت وانتوني شيرلي اللذين أصبحا لاحقاً عرابا تطوير الجيش وتجهيزه للقتال في الحروب العثمانية الصفوية.
التحالف القديم ما لبث أن تحول بعد قرون إلى استغلال ثم احتلال غير رسمي، وهكذا باتت لا تُذكر بريطانيا في إيران الحديثة إلا ويقترن ذكرها في وجدان أهل البلاد بالمؤامرات.
يختلف الإيرانيون على الكثير من القضايا، لكن العلاقة مع لندن تكاد تكون من المسلّمات التي تجتمع حولها عبارة “اين كار كار انكليسيها” أو “هذه صنيعة الإنكليز”. العبارة تعود إلى رواية “خالي العزيز نابوليون” للكاتب أيرج بزشكزاد، الذي قدّم لوحة سياسية هزلية تحولت خلال سبعينيات القرن الماضي إلى مسلسل تلفزيوني من إخراج ناصر تقوي وقدّم فيها شخصية الخال، العسكري المتقاعد، الذي يعيد كل شرّ يقع عليه إلى مؤامرة إنكليزية بدأت بعد هزيمته للجيش البريطاني في معركة خيالية خلال فترة حكم سلالة القاجار.
المعضلة البريطانية الإيرانية تاريخياً تستحق نفسها مسلسلاً طويلاً من أجزاء متعددة، نظراً للكم الذي تحويه من محطات ووجوه ولحظات تحول شكّلت جزءاً أصيلاً من مسار البلدين صعوداً ونزولاً. ولأن الحاضر ممتلئ ويفيض، سنتخطى كل ما سبق إلى اللحظة الحالية والاشتباك المتصاعد بين طهران ولندن على خلفية إعدام علي رضا أكبري، آخر وجوه العلاقة المتأزمة، وليس الأخير، والذي اعتقلته طهران وحاكمته بتهمة التجسس لمصلحة المخابرات البريطانية خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين.
مشهد إغلاق السفارة البريطانية يبدو أنه يدنو من التكرار، وإن كان ليس حتمياً، لكن بريطانيا في الجولة هذه تمارس بشكل أكبر التصعيد اللفظي دون اللجوء إلى خطوات قد تضعها أمام سيناريوهات لا يمانعها صقور طهران وتعطيهم أوراقاً إعلامية في الأزمة الداخلية
تتشابه قصة أكبري بحسب الرواية الإيرانية مع عمليات تجنيد غربية سابقة لشخصيات رسمية إيرانية، لكنها تأخذ بعداً خطيراً في ظل التوتر المتصاعد بين طهران والغرب حول تزويدها لروسيا بطائرات مُسيّرة في المعركة في أوكرانيا، إلى جانب حالة الموت السريري الطويلة للتسوية النووية.
وإذا كانت لندن مُستفزة من دخول إيران على خط المعركة العالمية المستعرة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، فطهران تشتاط غضباً من بريطانيا التي لا تفوت فرصة للدخول على خط الأزمة الداخلية الإيرانية والتظاهرات التي تلت وفاة الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني. حائط السفارة البريطانية عند تقاطع إسطنبول في طهران تحول خلال الأيام الماضية إلى مساحة لتبادل الرسائل الميدانية بين البلدين، أنصار النظام يخطون عليه شعارات معادية لـ“الثعلب العجوز”، كما يصف الإيرانيون بريطانيا، فيردُّ سفير بريطانيا بجمع دبلوماسيين غربيين لمسح الشعارات وتقديم مشهد للتضامن الغربي أمام “المروق” الإيراني. السفارة عينها شهدت قبل سنوات محاولة اقتحام من مؤيدي الحكومة خلال فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد بعد فرض لندن عقوبات على طهران. أغلقت بريطانيا سفارتها قبل أن تعيد فتحها بعد الاتفاق النووي صيف 2015.
مشهد إغلاق السفارة البريطانية يبدو أنه يدنو من التكرار، وإن كان ليس حتمياً، لكن بريطانيا في الجولة هذه تمارس بشكل أكبر التصعيد اللفظي دون اللجوء إلى خطوات قد تضعها أمام سيناريوهات لا يمانعها صقور طهران وتعطيهم أوراقاً إعلامية في الأزمة الداخلية. فاتهامات إيران لوسائل إعلام بريطانية أو مستقرة في طهران بالتدخل والتحريض ستكتسب مزيداً من القوة في مواجهة الأصوات التي تدعو لتخفيض مستوى التوتر ومحاولة إيجاد نوافذ للتواصل مع الغرب.
ولأن قضية أكبري أكبر من قضية جاسوس بالنسبة لطهران، فهي عمدت خلال الأيام الماضية لنشر ملف التحقيق بتفاصيله. وطرح الملف أسئلة حول طريقة حصول نائب وزير الدفاع الأسبق على الجواز البريطاني، والملفات المطلوبة منه، وظروف اختفائه بعد توقيفه للمرة الأولى عام 2008. وإذا كانت علاقة اكبري بصديقه القديم أمين مجلس الأمن القومي الجنرال علي شمخاني قد أثارت زوبعة سياسية داخلية، فإن اتضاح دور شمخاني في استدراجه إلى طهران عقب انكشاف علاقته بالاستخبارات الخارجية البريطانية، أعطى الأخير نقاطاً على من كانوا يُعوّلون على إضعافه باستخدام الورقة الأمنية.
بإعدامه سيطوى ملف اكبري ليصبح عنواناً جديداً في أرشيف علاقة متوجسة بين الأسد الإنكليزي والقط الفارسي. لن تنسى لندن أن طهران وضعت المسمار الأول في نعش دورها الدولي يوم أمّمَ محمد مصدق شركة النفط الإنكليزية الإيرانية عام 1951، ما حرمها من أموال طائلة كانت تموّل بها طموحاتها التوسعية، ولا إيران يمكن أن تبتلع لحظة انقلاب متعدد الأطراف أطاح بأول تجربة ديمقراطية تشكلت بانتخاب مصدق رئيساً لحكومتها قبل سبعة عقود.
إيران اليوم دولة مزعجة جداً لبريطانيا لأسباب كثيرة، وبريطانيا في عين إيران خصم مخادع يترهل سياسياً، داخلياً وخارجياً، لكن لا مفر من إدارة العلاقة معه بمنطق التجزئة تحت مظلة الدبلوماسية المفروضة حتى إشعار آخر.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“