حل الدولتين.. شماعةٌ فارغةٌ

في بداية القرن العشرين كان أهل بلاد الشام يستخدمون غالباً القطار للوصول إلى القاهرة. كانت حيفا هي محطّتهم الأولى، حيث كانوا يخلدون للراحة بضعة أيّام، تتخلّلها زيارة أكيدة لتلّ أبيب الأكثر صخباً والحافلة بالحياة "الغربيّة". لم تكًن يهوديّة تل أبيب تشكّل حينها مشكلةً لأحدٍ. إذ أنّ أغلبيّة اليهود كانوا أحد أجزاء مجتمعات الشام والرافدين ومصر وخاصّةً فلسطين.

لكن مجرّد مراجعة صحف فترات الانتداب كانت كافية لملاحظة صعود التوتّر حيال موجات الاستيطان ليهودٍ قادمين من بلدانٍ بعيدة وهو ما تواكب مع تواصل هجرة السكّان بعيداً بسبب الأزمات المعيشيّة واستغلال المستعمرين للموارد. هكذا بدا واضحاً للكثيرين أنّ بريطانيا عملت رويداً رويداً على تنفيذ وعدها بإنشاء دولةٍ يهوديّة في فلسطين برغم كلّ الوعود الأخرى والمسؤوليّة أمام عصبة الأمم وبرغم التكذيبات الرسميّة.

بالطبع، شكّل إنشاء الدولة الصهيونيّة عام 1948 صدمة تغييرٍ جذريّ لواقع مجتمعات متعدّدة الهويّات الدينيّة والإثنيّة. وواقع نقيضٍ جوهريّ لمشاريع بناء دولتها المستقلّة. وكان طبيعيّاً بالتالي أن ترفض شعوب المنطقة حينها التقسيم وحلّ الدولتين، لا سيّما مع طرد الفلسطينيين من أراضيهم ومدنهم وقراهم. فلا معنى لحلّ الدولتين دون حقّ العودة. هذا وقد تواكب ذلك مع اقتلاع اليهود العرب من بلادهم ومجتمعاتهم.

وخلال سنوات 1953 و1955 أجرى جمال عبد الناصر والضباط الأحرار مفاوضات مع الإسرائيليين حول حلّ الدولتين. إلاّ إنّ بريطانيا وفرنسا شجّعتا الجناح التوسّعي في إسرائيل للمشاركة في العدوان الثلاثي عام 1956 مقابل الحصول على القنبلة النوويّة. ولم يوقف ذلك العدوان سوى الإنذار النووي السوفياتي، من نفس البلد الذي كان أوّل من اعترف بالكيان الصهيونيّ.

بعد ذلك، تبوّأت الولايات المتحدة مركز الداعم الرئيسي للغطرسة الإسرائيلية إلى جانب بريطانيا وفرنسا لتقويض دعم العرب لاستقلال بقيّة بلدانهم (مشروع حلف بغداد وغير ذلك). لقد استقلّت تلك البلدان الأخرى، إلاّ أنّ الأمر انتهى بـ”نكسة” حزيران/يونيو 1967 التي عقبتها المطالبة بمجرّد انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل تلك الحرب. وما يعني ضمنيّاً الاعتراف بالتقسيم.

ومنذ ذلك الحين، يعمل الإسرائيليّون بجدٍّ ومثابرة في سبيل تثبيت الاستيطان في الضفّة العربيّة والجولان السوري. ولم يمنعهم عن ضمّ غزّة إلى هذه القائمة سوى الكثافة السكّانيّة العربيّة في القطاع التي تجعل حماية المستوطنات ذات كلفةٍ أكبر بكثير من الكلفة المطلوبة لصدّ بعض المقاومة من هذا السجن الكبير. لقد أعلنت إسرائيل ضمّ القدس والجولان إلى أراضيها خلافاً لكلّ قرارات الأمم المتحدة، واعترفت الولايات المتحدة بهذا الضمّ. ولا يمنع إسرائيل من ضمّ الضفّة الغربيّة سوى أنّ تطبيق قوانين “احتلال” وإجراءات اتفاقيّة “أوسلو” أسهل لها بغية إدارة شؤون الفلسطينيين هناك ودفعهم إلى الهجرة خارج البلاد. في مثل ذلك السياق، أعادت إسرائيل سيناء إلى مصر برعايةٍ أمريكيّة مقابل تحييد هذا البلد الرئيس فعليّاً حيال القضيّة الفلسطينيّة وقضايا العرب الأخرى.

كأنّ وعداً آخر، مثل وعد بلفور، يُعملُ عليه بصمت ولكن بتصميمٍ مثل سابقه. ربّما ليس الأمر “مؤامرة” ولكن نتيجة لذهنيّات منتشرة عالميّاً حوّلت القضيّة الفلسطينيّة من قضيّةٍ سياسيّة إلى ملفٍّ إنسانيّ. ملفّ مجتزأ، لا يدين “الأبارتايد”، بل يقدّم مساعدات ليثبّت بالحدّ الأدنى مسار إطفائه

كذلك تمّ “تطبيع” أغلبيّة المقاومة الفلسطينيّة التي نشأت في الستّينيات، خاصّةً تلك التي لا تتبع النهج الإسلاميّ. ثم من مصلحة إسرائيل أن يظهر الصراع على أنّه إسلاميّ – يهوديّ، وليس فلسطينيّاً – إسرائيليّاً.

لكن على الصعيد الشعبي ما زال الفلسطينيّون يقاومون. في أراضي 1948، من أجل المساواة التامّة في المواطنة والحقوق في دولة تتبنّى أنّها يهوديّة. وفي القدس، ضدّ اغتصاب هويّة المدينة المتعدّدة ولحماية الأقصى. وفي الضفّة الغربيّة، ضدّ تجزئة الأراضي وسلبها لإقامة المستوطنات، وفي مواجهة بؤس أوضاع النازحين الفلسطينيين على أرضهم. وما بات يُعترَف عليه عالميّاً بأنّه نظام “أبارتايد” (تمييز عنصريّ). وكذلك يقاومون في قطاع غزّة، المعزول عن باقي فلسطين كما عن مصر. ويقاومون في “الشتات” حول الحقّ في الهويّة الفلسطينيةّ وحق العودة.

وكلّما اشتدّت هذه المقاومة مقابل تصاعد استفزازات السلطات الإسرائيليّة والمستوطنين المدعومين بجيش الاحتلال، يأتي مسؤولون أجانب وعرب ويدعمون “حلّ الدولتين” كأساسٍ لخفض التصعيد. هذا يعود بالذاكرة إلى وعود بريطانيا في بداية القرن العشرين، وعملها البطيء لتنفيذ وعدٍ دون الوعود الأخرى.

في الواقع، توجد حقيقة “دولتان” اليوم على أرض فلسطين. هناك دولة تسمّى إسرائيل، عضوٌ في الأمم المتحدة ولا تلتزم بقراراتها، وشريكٌ أساسيّ للولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وغيرها. دولة إسرائيل التي لا تُعامِل كافّة مواطنيها بالتساوي ولا أحد يدينُ ذلك. وتحتلّ أراضٍ لا أحد يطالبها بالانسحاب منها، بل حتّى مجرّد تطبيق مسؤوليّات قوى الاحتلال. وهناك أيضاً دولة تسمّى فلسطين، التي تفتقر لأيّ وجود فعليّ لها سوى في عدّة أبنية في رام الله، وتمنَع من الانضمام إلى الأمم المتحدة سوى كمراقب، وبالتوازي يتمّ رويداً رويداً قضم الأرض التي يُمكِن أن تؤّسس مستقبلاً عليها. إنّ كلّ الجهود تقوم، إسرائيليّاً وأمريكيّاً وأوروبيّاً، لتفكيك إمكانيّات استمراريّة هذه “الدولة” الثانية كدولة على المدى الطويل. هذا في الوقت الذي تتفتّت فيه “الدولة” في سوريا، كما تنهار في لبنان، وتعاني من شرذمتها في العراق.

إقرأ على موقع 180  حرب غزة وما بعدها.. السيناريوات الإسرائيلية

وكأنّ وعداً آخر، مثل وعد بلفور، يُعملُ عليه بصمت ولكن بتصميمٍ مثل سابقه. ربّما ليس الأمر “مؤامرة” ولكن نتيجة لذهنيّات منتشرة عالميّاً حوّلت القضيّة الفلسطينيّة من قضيّةٍ سياسيّة إلى ملفٍّ إنسانيّ. ملفّ مجتزأ، لا يدين “الأبارتايد”، بل يقدّم مساعدات ليثبّت بالحدّ الأدنى مسار إطفائه. ملفٌّ كغيره من أزمات المنطقة يشكّل فقط مجالاً لأحداثٍ تنشط عليها قنوات التلفزة الإخباريّة. ملفٌّ يخضع للصراعات الإقليميّة والدوليّة بالوكالة على بلاد الشام والرافدين، وغيرها. باختصار ملفٌّ لا أفق له.

لقد اعترفت مصر والأردن بإسرائيل كدولة و”طَبّعت” العلاقات معها. ثمّ تبع ذلك “تطبيعٌ” صريحٌ أو ضمنيّ من دول الجزيرة والمغرب العربيين من خلال “اتفاقيات إبراهيم” برعايةٍ أمريكيّة. ووصل “التطبيع” في بعض الأحيان إلى التعاون الوثيق الأمنيّ والتبادل التجاري النشط، خاصّة من خلال اتفاقيات الإعفاءات الضريبيّة للصادرات إلى الولايات المتحدة.

اللافت للإنتباه أنّ استخدام مرجعيّة النبيّ إبراهيم الخليل في التسمية يُعيد الموضوع إلى صراعٍ إسلاميّ – يهوديّ. وكأنّ اليهود العرب لم يكونوا عرباً في الأساس كما يبيّن اليوم “المؤرّخون الجدد” في إسرائيل نفسها. وكأنّ الإشكاليّة كانت بين دول الخليج العربي وإسرائيل، وليست ضمن أرض فلسطين في الجوهر وحول نصرة العرب للفلسطينيين في نضالهم.

هكذا تبدو التصريحات الطنّانة، العربيّة أو الأجنبيّة، حول “حلّ الدولتين” شمّاعةٌ فارغة، تتهرّب من إدانة “التمييز العنصريّ” والاحتلال. تصريحاتٌ يبدو أنّها ستستمرّ طويلاً طالما لم تتغيّر الذهنيّات العربيّة والخارجيّة عمّا هي عليه اليوم.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  تجارة الحرب، ضحاياها.. ومجالس إدارتها!