قضية اليوروبوندز وصندوق النقد: إما حكومة ثورة أو.. ثورة

ما هي الفرصة المتاحة أمام الحكومة اللبنانية الجديدة لإلتقاط الأنفاس إقتصاديا وماليا ونقديا؟ وإذا توافرت لديها الرغبة، هل تملك القدرة على الحد من الإنهيار أم أن الإنهيار سيكون مقدمة لإعلان إفلاس لبنان؟ وهل تمتلك هذه الحكومة رؤية إقتصادية وإجتماعية وهل هي مؤهلة لتطبيق العلاج المناسب؟

بالرغم من التصدعات الخطيرة التي ضربت البنية الإقتصادية اللبنانية على مدى عقود من الزمن، فإن المعنيين بالشأن المحلي أبدوا دهشة حيال التصنيفات المتدنية للبنان التي اعتمدتها وكالات اقتصادية دولية متخصصة مثل “فيتش” و”موديز” و”ستاندرد أند بورز”، وهي تصنيفات لا يغيب عنها البعد السياسي، بالمقارنة مع أوضاع لبنانية سابقة أو مع حالات دول مختلفة.

ربما كان الظن لدى مروجي المعجزة اللبنانية، أن الريعية المفرطة المتحكمة بالأداء الإقتصادي في لبنان منذ نشأته، والتي تحولت استراتيجية وحيدة معتمدة بدءاً من مطلع تسعينيات القرن الماضي، لا يسعها أن تشكل خطراً بنيوياً مهدداً للاستقرار على الصعد كافة، ولعل بعض هؤلاء تملكهم احساس مجهول المصدر أن عناصر المعجزة المفترضة لا تزال صالحة للاستخدام، وستعمل على إنقاذ الإقتصاد اللبناني من الإنهيار في اللحظة الحرجة، حتى لو تطلب الأمر سلوك مسارب غيبية لم يهتد إليها علم الإقتصاد بعد.

يمثل الدين العام المتصاعد كعب أخيل في بنية الإقتصاد اللبناني، ويتوقف على طريقة التعاطي معه من قبل الحكومة الكثير من مؤشرات نجاحها، أو فشلها، في إدارة الأزمة التي بلغت مراحل متقدمة، من دون إغفال العنصر السياسي الأبرز الذي ساهم بتفاقم الأزمة، وهو القرار السياسي سواء بفرض عقوبات أو بإقفال حنفية الدعم العربي والدولي عن لبنان لإعتبارات سياسية متصلة بدور حزب الله الإقليمي.

من القضايا الأكثر إلحاحا على جدول أعمال الحكومة الجديدة، دفع مستحقات اليوروبوندز للعام 2020، وقد إختارت حكومة حسان دياب التعامل معها وفق ما يطلق عليه، وفق التعريف العلمي، مسمى “سواب”، وهو يعني استبدال دين بآخر.. كما أنه يوازي مصطلح “تركيب الطرابيش” وفق السائد.. هذا النمط من التعامل مع الدين العام معمول به في لبنان منذ العام 1992 بصورة تخالف أبده مبادئ الإقتصاد، حيث قامت تيمة الدين في الأصل على أساس استدانة مبالغ مالية بهدف تحويلها إلى طاقة استثمارية تؤمن للمستدين إمكانية الإكتفاء المادي ودفع فائدة الدين، ليصار من ثم إلى رد أصوله عبر فترة زمنية محددة.. بعض المشكلة الإقتصادية اللبنانية عائد إلى استخدام المبالغ المقترضة في مجال الإستهلاك عوضاً عن الإنتاج، وفي تحقيق أرباح فردية وفئوية وشراء الذمم، وهو ما يحصل في لبنان منذ قرابة سبع وعشرين سنة.

وعلى مشارف كل استحقاق لإيفاء الدين، أو جزء منه، كانت الدولة تعمد إلى استدانة مبالغ مادية جديدة بكلفة أعلى لتسديد المبالغ السابقة، في ما يشكل حلقة سيزيفية مغلقة لشراء الوقت، وقد يكون الأمر مبرراً في ظل وجود خطة مستقبلية تتيح الفرصة لتحسين الظروف الإقتصادية لاحقاً بما يتيح إمكانية إيفاء الدين تدريجياً تمهيداً للتخلص منه، وذلك على غرارالطبيب الذي يسعى لإطالة عمر المريض بانتظار اكتشاف علاج ملائم، لكن ما كان سائداً في لبنان طيلة العقود الثلاث الفائتة شكل آلية متفردة لشراء الوقت منفصلة عن أي أفق مستقبلي.

وحتى عندما تدخلت الظروف الدولية إيجاباً لمصلحة لبنان بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 والتي أمدت الساحة المصرفية اللبنانية بـ 11 مليار دولار(كانت المؤشرات الإقتصادية في العام 2000 سلبية للغاية وتردد في حينه أنه لم يبق لدى مصرف لبنان سوى حوالي مائتي مليون دولار من العملات الصعبة)، لم تكن حاجة لبنان تتخطى الثلاثة مليارات دولار للسيطرة على مساره ومصيره الإقتصادي.

حتى الآن لا أحد يملك جواباً مقنعا حيال ما حصل من بيع وشراء سندات عبر الشركة الوحيدة المخولة بعملية البيع والشراء للسندات اللبنانية، برغم وجود تعاميم عن مصرف لبنان تمنع قيام مثل هذه العمليات، ولذلك، يجري التدقيق في المسار القانوني لعملية البيع التي قامت بها المصارف اللبنانية وما إذا كانت قد قبضت الثمن في الخارج

الإستحقاق العاجل الذي تواجهه الخزينة اللبنانية اليوم هو سندات اليويوربوندز المستحقة بين آذار/مارس 2020 وحزيران/يونيو 2020، بقيمة مليارين ونصف المليار دولار، أكبرها دفعة التاسع من آذار/مارس المقبل وهي 1,2 مليار دولار، وهي التي شهدت عملية تحايل أو تلاعب تعبر عنها الأرقام:في مطلع كانون الثاني/يناير 2020، كان المقرضون المحليون (المصارف اللبنانية) يحملون 660 مليون دولار من هذه السندات و540 مليون دولار يحملها المستثمرون الاجانب (مصارف وشركات ومؤسسات مالية في الخارج)، ولكن فجأة تبين أن المصارف اللبنانية باعت، بواسطة شركة “ميد كلير”، أكثر من 260 مليون دولار بأقل من قيمتها (بخسارة) إلى المؤسسات الأجنبية، الأمر الذي أحرج الدولة اللبنانية، التي كانت تنوي تأجيل دفع المستحقات اللبنانية والإكتفاء بدفع سندات اليوروبوندز المستحقة للخارج.

حتى الآن لا أحد يملك جواباً مقنعا حيال ما حصل من بيع وشراء سندات عبر الشركة الوحيدة المخولة بعملية البيع والشراء للسندات اللبنانية، برغم وجود تعاميم عن مصرف لبنان تمنع قيام مثل هذه العمليات، ولذلك، يجري التدقيق في المسار القانوني لعملية البيع التي قامت بها المصارف اللبنانية وما إذا كانت قد قبضت الثمن في الخارج، الأمر الذي رتب أعباء إضافية (ربع مليار دولار) يجب أن تدفعها الحكومة من إحتياطي العملة الصعبة، ليصبح إجمالي ما ستكون ملزمة بدفعه للمصارف الأجنبية بحدود 800 مليون دولار، مقابل 400 مليون دولار للمصارف المحلية والتي سيصار إلى تأجيلها، علما أن الاستحقاقين المقبلين لسندات اليوروبوندز في نيسان/أبريل المقبل بقيمة 700 مليون دولار، وحزيران/يونيو المقبل بقيمة 600 مليون دولار، قد تتبدل أرقامهما، أو هي بالأحرى قد تغيرت نتيجة عمليات البيع التي قامت بها المصارف المحلية بعدما أدركت أن الدولة ستسدد إلتزاماتها فقط للخارج، وبرغم المخاطر التي يمكن أن تترتب على شراء المصارف الأجنبية للسندات، لا سيما مع تراجع تصنيف لبنان الإئتماني.

إقرأ على موقع 180  بعد أفغانستان: أوروبا تتكل على الذات.. و"الناتو" مسألة وقت

ثمة تفاهم سياسي غير معلن حتى الآن بدفع الإستحقاق الأول الذي يستحق في التاسع من آذار/مارس المقبل، مهما كانت أرقامه، والسبب أن رئيس الحكومة حسان دياب يردد أمام زواره أنه لن يقبل أن يقال أنه في عهده تخلف لبنان عن سداد ديونه (تصنيف defaults اي التخلف عن الدفع)، كما أن حاكم مصرف لبنان المركزي يصر على إلتزام لبنان بسداد ديونه في المواعيد المحددة صوناً لسمعة لبنان المالية!

لبنان ليس جاهزاً للخيارات البديلة للتسديد ـ أقله الدفعة الأولى ـ وهذه الخيارات محصورة بين واحد من إثنين: الأول غير واقعي ويحتاج إلى مدى زمني، وركيزته إستعادة أموال منهوبة من خلال آلية تتضمن رفع السرية المصرفية وتوقيف مشتبه بهم، فضلا عن إعادة أموال سحبت من لبنان في العام 2019 وتتجاوز الأرقام المعلنة حتى الآن (بين 5 و10 مليارات دولار)، ومعظمها لكبار المودعين، بمن فيهم كبار المساهمين في المصارف، وبينهم بعض رؤساء مجالس إدارات المصارف اللبنانية، وهذا الخيار يحتاج إلى قرار سياسي يتعذر إتخاذه من قبل الطبقة السياسية التي قد يكون بعض أركانها شريكا في هذه العمليات وحى في بلوغ واقع الإفلاس الحالي.

أما الخيار الثاني، فيتطلب إعادة جدولة الدين، وهنا يبدو صندوق النقد الدولي هو الخيار الأكثر واقعية بالنسبة إلى أهل السلطة، لكن هذا الخيار، كما غيره، يحتاج إلى قرار سياسي من السلطة السياسية، ومن ثم إلى خارطة طريق متدرجة قبل موافقة الصندوق على التدخل رسميا.

وثمة خيار آخر يدعو إلى التفاوض مع الدائنين وصولاً إلى مقايضة السندات بأخرى ذات آجال أطول في حال وافق المقرضون، وبالتالي تحمّل المزيد من خفض التصنيف السيادي للبنان.

غداً، تمثل حكومة حسان دياب أمام النواب، وهي حتماً ستنال ثقة الغالبية النيابية، لكن تنتظرها إستحقاقات داهمة، وعليها تحديد خياراتها، فلكل خيار منها حسناته وسيئاته، وفي النهاية، لا بد من قرار

هذا التباين في الرأي والرؤى يحفز الحكومة على مناقشة موضوع “السواب” في سعي متواصل لتأجيل الإنهيار الكبير الذي ترجح التحليلات أنه سيغدو حتمياً، إن لم يكن قد حصل فعلاً. لكن ثمة من يقول أن النقاش العلني الدائر حالياً حول دفع المستحقات أو تأجيلها يترك آثاراً سلبية على سمعة لبنان المالية، أو ما تبقى منها، ويضيّق الخيارات أمام الحكومة الوليدة بما يحصرها في خانة اللجوء المتدرج إلى صندوق النقد الدولي، الأمر الذي من شأنه أن يثير تداعيات، “لكنه يبقى أقل سلبية من قرار مرتجل بعدم الدفع سيرتد سلباً وبصورة سريعة على القطاع المصرفي في لبنان وعلى ودائع اللبنانيين”، على حد تعبير أحد كبار المسؤولين اللبنانيين.

المعيار الأساسي الناظم للموقف السليم في هذا السياق يعتمد على وضوح الخطوات اللاحقة لقرار دفع المستحقات أو تأجيلها.. أي على توفر خطة عمل أو خارطة طريق مستقبلية محددة المعالم، وهو ما تعمل الحكومة الجديدة على بلورته، على حد تأكيد أكثر من وزير فيها، فضلا عن تشكيل فريق إقتصادي ومالي من الحكومة اللبنانية والبنك الدولي، أخذ على عاتقه وضع رؤية إقتصادية (برنامج مالي إقتصادي إجتماعي) يفترض أن تنجز قبل نهاية شباط/فبراير 2020.

وليس خافيا أن سلسلة إجتماعات عقدت بين عدد من المكونات السياسية للحكومة الحالية، ولا سيما بين قياديين من حزب الله وحركة أمل، تمحورت حول صياغة موقف من قضية سداد الإلتزامات أو السير بخيار صندوق النقد، وقد تبين أن أغلبية القوى تحاول تفادي تجرع كأس صندوق النقد، وهذا المناخ نفسه بلغ مسامع القيمين على إدارة الصندوق في واشنطن الذين أبلغوا الحكومة اللبنانية رسميا أنه ليس صحيحا أنه إذا طلب لبنان المساعدة سيجد الأبواب مقفلة بوجهه، بل على العكس ثمة إرادة لدى مجلس إدارة الصندوق للتعاون والمساعدة، لذلك كانت البداية من “المساعدة التقنية”. ففي إتصال أجراه رئيس الوزراء السابق سعد الحريري بمديرة الصندوق الجديدة​ ​كريستالينا جيورجيفا في الخريف الماضي، تبلغ منها أن الصندوق “منفتح لدعم جهود لبنان بمساعدة تقنية”.  كما أبلغته بإمكان حصول لبنان على Extended Fund Facility، أي تسهيلات الصندوق الموسعة مشروطة بإصلاحات محددة، وجدواها يمكن أن تتحقق خلال مدى زمني قريب (خمس سنوات) ولكنها تحتاج إلى قرار سياسي كبير كونها تتضمن إجراءات قاسية مثل:

– رفع ضريبة القيمة المضافة من 11 في المئة إلى 15 في المئة،

– زيادة الضريبة على البنزين بمقدار خمسة آلاف ليرة لبنانية على كل صفيحة بنزين،

– زيادة تعرفة الكهرباء،

– تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية،

– إعادة النظر في هيكلية الإدارات والمؤسسات العامة (إلغاء وظائف وإلغاء نظام التقاعد إلخ)،

كما تشمل مطالب الصندوق خصخصة بعض القطاعات والتركيز على تعزيز سيادة القانون، تعزيز نزاهة واستقلالية القضاء، تقليل التنفيعات في الاقتصاد ومحاربة الرشوة والفساد.

غداً، تمثل حكومة حسان دياب أمام النواب، وهي حتماً ستنال ثقة الغالبية النيابية، لكن تنتظرها إستحقاقات داهمة، وعليها تحديد خياراتها، فلكل خيار منها حسناته وسيئاته، وفي النهاية، لا بد من قرار.

وفقاً لهذا الراي، يصير نجاح الحكومة الجديدة مرهوناً بامتلاكها سمات ثورية مغامرة تدفعها نحو مواجهة القوى التقليدية الموقنة من أن لبنان إما يكون مربطاً لخيلها الطائفي المهجن على شكل ثروات ضخمة، أو لا يكون.

 (*) صحافي لبناني

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الأميركيون ونصرالله: رسائل، مفاوضات، ترجمات!