من “قانون قيصر” إلى زلزال سوريا.. ممنوع إغاثة الضحايا

يحلو ضرب الأمثال وسرد قصصها في الجلسات الشتوية مع العائلة والأهل حول المدفأة، وهو تقليد عائلي في الدول العربية تتوارثه الأجيال، ولو نسبيًّا. بيد أنه حق مسلوب من سوريا كالكثير من حقوقها الأخرى التي حرمها إياها "قانون قيصر" باسم قوانين أحادية؛ أباح أصحابها تجاوز الأعراف والمواثيق الدولية والاستئثار بقرار المنظمات الدولية، وإخضاعها لسلطة نظام الاقتصاد السياسي الذي تتحكّم به وتهيمِن به على العالم.

إثنتا عشرة سنة مضت على الأزمة السورية وما يزال الحكم مستمرًا على شعبها بالعيش؛ نازحين ولاجئين؛ مسلوبين أبسط حقوق العيش؛ ولا سيما الشعور بالدفء المعنوي في كنف الدولة السيادية، والدفء الجسدي بعيدًا عن الخيم التي تستبيح مع كل فصل شتاء ما طاب لها من قرابين.

اليوم، وبينما الشعب السوري يعاني ويلات الزلزال المدمّر الذي ضرب لواء اسكندرون ومناطق عدة في الشمال السوري، تصبح الأمثال جوفاء وباردة كصقيع من يُصرّ على استثمار الأزمات والنكبات في سوريا؛ فالناس في المناطق المنكوبة بلا مأوى، لكن البعض يمعن في سلب هؤلاء حتى أحلام وصول المساعدات إليهم.

لقد سلب “قانون قيصر” الذي أقّرته الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب في كانون الأول/ديسمبر 2019، ودخل حيّز التنفيذ في حزيران/يونيو 2020، حق سوريا في امتلاك مستلزمات الاستجابة للأزمات بعد ما استنفذته الحرب – على مدى عقد كامل – من المعدات والأدوات والآليات، وفرضته من هجرة الأدمغة والطواقم الطبية والتمريضية وغيرها من الطاقات الشبابية. فآلة الحرب الاقتصادية التي أطبقت على سوريا في حزيران/يونيو 2020، كانت أقسى من مقصلة الحرب التكفيرية الإرهابية. وتشير بيانات التقارير الرسمية المختلفة إلى الفارق الشاسع بين تأثير الحرب التي اندلعت سنة 2011، وحرب “قانون قيصر” 2020، على القطاعات السورية بمجالاتها كافة. ويُعدّ أحدثها – وليس أوحدها كما لن يكون آخرها – تقرير النتائج الأولية الصادر عن مفوّضة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الدكتورة ألينا دوهان، حول التأثير السلبي للعقوبات أحادية الجانب المفروضة على سوريا.

أيام عصيبة تمر على سوريا والعالم ينظر إلى الأطفال المحتجزين بين الجدران والسقوف المتراصة؛ فيما آليات الإغاثة، إنْ وُجِدت، أصاب الصدأ خزانات وقودها الفارغة بفعل الحصار وشح المحروقات، تمامًا كما هو حال الضماد والدواء والقوت والمسكن والدفء.. والأهم أن سوريا تنتظر صوتًا ينصرها؛ لا ينتصر عليها.

المحنة الراهنة فرصة للخروج من الكذبة التي روّج لها البعض من أهل الإعلام والسياسة حتى صدّقوها؛ الكذب على الشعوب بأن “قانون قيصر” الذي يخنقهم ليس مُصلتًا على رقابهم وإنما على حكوماتهم. فالعقوبات التي تستثني الغذاء والدواء والمستلزمات الطبية في سوريا تشمل المصرف المركزي السوري والمعاملات المالية، أي إنها تمنع استيراد السلع

لقد انقسمت قنوات الإعلام العربية في التعامل مع مأساة سوريا التي طالها الجدل ورهنها للحسابات السياسية، لتؤكّد بعض الرسائل مرة أخرى مدى هيمنة الإعلام المسيّس وسلطته. من جهتها، إنبرت وزارة الخارجية الأمريكية تدافع عن سياساتها وإجراءاتها على موقعها على “تويتر”، وذلك ردًّا على بعض التقارير الصحفية حول العقوبات الأمريكية، بالقول: “العقوبات تتضمن استثناءات لا تمنع وصول المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية”. وبالتوازي، اتّخذت بعض القنوات الفضائية دور المحامي والمدافع عن واشنطن في مسار التضليل والتعتيم على الإحراج الكبير الناجم عن تأثير عقوبات “قانون قيصر” على منع المساعدات من أجل إغاثة ضحايا الزلزال في سوريا.

وبينما تهافتت المبادرات الدولية الإنسانية على تركيا المنكوبة منذ اللحظات الأولى لوقوع الزلزال، اتّبعت معظم الدول العربية تجاه النكبة السورية سياسات حذرة، اقتصر بعضها على المستوى الدبلوماسي من قبيل إجراء اتصال أو التعبير عن التعاطف اللفظي دون المستوى المطلوب مقارنة بحجم المأساة الحالية، لا سيّما وأنّ العقوبات الأمريكية هي خارج إطار الشرعية الدولية، و”قانون قيصر” لا يُلزم الدول بهذه العقوبات لناحية القانون الدولي. أضف إلى ذلك أن نصّ القانون لا يتطرّق إلى موضوع المساعدات الإنسانية؛ الأمر الذي يجعل الاستثناءات قابلة للتفعيل وإحياء الجهود والإرادات الجادّة. وعليه، تستطيع الدول المجاورة، العربية والغربية، المشاركة في تجاوز الحصار على سوريا، خاصة وأنّ المتحدث الإقليمي لوزارة الخارجية الأمريكية، سامويل وربيرج، أكّد أن “المساعدات الإنسانية مستثناة من العقوبات الأمريكية”، ما يلغي مفاعيل أي قرار ضد أي دولة تُقدّم مساعدة إلى سوريا.

إنّ الكارثة التي حلّت بالشعب السوري وتفاقم معاناته تستحق نظرة متعالية وشاملة للمشهد، تتخطّى الازدواجية في الحسابات والمعايير، فالمحنة الراهنة فرصة للخروج من الكذبة التي روّج لها البعض من أهل الإعلام والسياسة حتى صدّقوها؛ الكذب على الشعوب بأن “قانون قيصر” الذي يخنقهم ليس مُصلتًا على رقابهم وإنما على حكوماتهم. فالعقوبات التي تستثني الغذاء والدواء والمستلزمات الطبية في سوريا على سبيل المثال لا الحصر، تشمل المصرف المركزي السوري والمعاملات المالية، أي إنها تمنع استيراد السلع وتجعل من حصول عملية الاستيراد أساسًا مستحيلة، إضافة إلى التداعيات الناجمة عن ذلك في تفاقم انهيار العملة السورية وانخفاض القدرة الشرائية وشلّ الحركة الاقتصادية.

إن الاستجابة للكوارث الإنسانية من الضرورات الإنسانية البديهية التي تسقط معها الحدود اللغوية والوطنية والثقافية والآليات الدبلوماسية وسياسات الأمن القومية. فالإنسانية أولى بالاهتمام من قسم الدبلوماسية الرياضية التي أنشأتها الولايات المتحدة الأمريكية في وزارة الخارجية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، للتواصل مع الشباب في جميع أنحاء العالم.

إقرأ على موقع 180  روسيا ومقتل البغدادي.. تشكيك في مصير رجل دُفن عدّة مرات

لذا، تواجه الإدارة الأمريكية تحدّيًا كبيرا في التعامل مع وضع الشعب السوري المنكوب وصولًا إلى ضرورة اللجوء إلى نقاط المرونة في سياسات “قانون قيصر”، وقد تكون البداية مع مبادرة تقوم بها وزارة الخارجية الأمريكية لإنشاء قسم “الدبلوماسية الإنسانية”؛ للتواصل الإنساني والنظر للجميع بعين الإنسانية ومنظورها، لا بميزان المصالح المادية البالية.

وفي خطٍّ موازٍ، قد تكون مراكز الفكر الأمريكية هي الأخرى أمام تحدّ في اتباع استراحة، ولو آنية، من استغلال معاناة شعوب المنطقة من أزماتها التي ولّدتها سياسات الهيمنة الخارجية، وتنحو باتجاه البحث عن حلول وتقديم توصيات على قدر من الحس الإنساني.

إنّ ما يعانيه الشعب السوري لا يتحمّل “الطفيلية” البحثية والفكرية الممعنة في إثارة الضغائن والأحقاد والنزاعات. وإنه من المؤسف، أن يطالع مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية (CSIS) القرّاء، في السابع من الشهر الجاري، أي بعد يوم واحد من الزلزال وحلول المأساة الإنسانية في سوريا، بمقال تحت عنوان “الزلزال قد يُعمّق الانقسامات في سوريا”. كما تجدر الإشارة إلى أنّ العديد من المقالات انطبعت مقارباتها بمسار الحديث عن الانقسام في الاستجابة بدلًا من المشتركات، والتركيز على موضوع الفصل في المساعدات بين مناطق سيطرة النظام وتلك الخاضعة للمعارضة.. وتاليًّا، لا بد من التحرّك على كل المستويات وفق الرؤى البيّنة والاستجابة على قدر من المسؤولية وحسّ المشاركة الفاعلة في الخروج من دوّامة الأزمات المفروضة، وإلّا فإنّ ارتدادات زلزال سوريا على صعيد التصدّع الإنساني والثقافي والأخلاقي ستكون أكثر قسوة وإيلامًا.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذة جامعية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ما بعد أوكرانيا وفلسطين..​ حربٌ عالَميّةٌ ثالثةٌ أم عالمٌ جديدٌ؟