دعت اسرائيل وزراء خارجية أربع دول عربية بالإضافة إلى وزير الخارجية الأمريكى للنظر فى الأمن الإقليمى وفق جدول أعمال حدّدته وحدها ومخرجات أعلنتها دون توافق عليها.
كان ذلك تطوراً سلبياً خطيراً فى مسارات الصراع العربى الإسرائيلى.
لم يكن هناك أدنى استعداد، من بعيد أو قريب، لأى حديث على شىء من الجدية يدعو إسرائيل للانسحاب من الأراضى العربية المحتلة وفق المرجعيات والقوانين الدولية، أو وقف الاستيطان الحالى على مرمى البصر من موقع الاجتماع الوزارى!
للرموز وقع خاص فى الإرث اليهودى.
اختير ذلك الموقع بالذات بالقرب من البيت الذى عاش فيه مؤسس الدولة العبرية «ديفيد بن جوريون» سنواته الأخيرة قبل أن يدفن فى نفس البقعة حتى تكون الرسالة واضحة وصريحة.
إسرائيل لم تعد معزولة ومحاصرة، كما كانت فى سالف الأزمان.
إسرائيل الآن قوية ومنتصرة وهناك «حقبة جديدة تنتظر قياداتها»، كما أفاضت الصحافة الإسرائيلية.
لم تكن هناك من حيث دقة الأوصاف «حقبة جديدة» تنتظر إسرائيل.
الدعوة إلى منتدى النقب بتوقيته وسياقه محاولة أخرى لقطع الطريق على أية أدوار مصرية ممكنة بأى مستقبل إذا ما ارتفعت إلى ما تستحقه من أدوار وأوزان
فكرة المنتدى بتوقيتها وسياقها تعبير عن مخاوف حقيقية من أن تفضى أية تحولات محتملة فى النظام الدولى إثر الحرب الأوكرانية والنظام الإقليمى بتداعيات إحياء الاتفاق النووى مع إيران إلى تقويض أدوارها المتخيلة ومفهومها للأمن نفسه.
كان مستلفتاً فى اجتماع بمثل هذا المستوى، لأول مرة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، أن يكون موضوعه الوحيد «الأمن الإسرائيلى»، وأن تتراجع القضية الفلسطينية إلى آخر الهامش السياسى!
كان إقصاء القضية الفلسطينية وهماً خيّم على منظمى المنتدى، تكفلت الحوادث بتبديده.
استبقته عملية «الخضيرة»، التى أربكت جدول أعماله واحتفالاته وصوره التذكارية أمام ضريح «بن جوريون»، وتلته مواجهات سلاح فى شرق تل أبيب هزت الأمن الإسرائيلى الداخلى.
بقوة الحقائق بدت فكرة المنتدى هشة وغير قادرة أن تقنع فضلا عن أن تقود!
لا تجاوز القضية الفلسطينية ممكن ولا نظام إقليمىاً جديداً تمتلك إسرائيل ناصية قيادته متاح.
فيما قيل تسويغاً للمشاركة فى أعمال المنتدى: «لا بد من دعم حل الدولتين على حدود 1967»، على ما قال وزير الخارجية المصرى «سامح شكرى» دون أن يكون هناك من هو مستعد أن يستمع!
وفيما قيل تسويغاً لتجاهل طبيعة الصراع كقضية تحرر وطنى ادعاء وزير الخارجية الإسرائيلى «يائير لابيد» أنه يستهدف «تحسين الفرص للإسرائيليين والفلسطينيين للعيش معاً».
التعبير الإسرائيلى مراوغ لا يقول شيئاً ممسوكاً له معنى، أو يترتب عليه فعل.
بتعبير آخر، هو أقرب أن يكون صيغة مخففة من جوهر «صفقة القرن»: «الاقتصاد مقابل السلام!».
الأخطر من ذلك كله ما ورد على لسان الوزير الإسرائيلى فى ختام المنتدى من توجه لـ«تشكيل لجان أمنية لمواجهة تهديدات إيران فى المنطقة»، وإنشاء «شبكة أمنية للإنذار المبكر تعقد بشكل دورى».
الكلام بنصه وإيحاءاته يعنى أن هناك توافقات وإجراءات توشك أن تبدأ تأسيساً لحلف إقليمى جديد يواجه «العدو الإيرانى المشترك» وأذرعه فى المنطقة.
بصياغة «لابيد» فإنها «رسالة قوية إلى إيران».
تبدت هشاشة الفكرة وأنها غير قابلة للحياة بإعلان الوزير المصرى أمام كاميرات الصحفيين عقب عودته إلى القاهرة «أن مصر لم تستهدف من مشاركتها أن تكون طرفاً فى أى حلف».
المعنى أن ما أعلنه «لابيد» باسم المشاركين لم يكن متفقاً عليه مع أكبر دولة عربية، ولا كان هناك من الأصل بياناً ختامياً!
كان ذلك تجاوزاً إسرائيلياً ينطوى على استهتار فادح بأية قواعد وأصول دبلوماسية.
بصياغة أخرى، ليس لدى مصر ما يدعوها إلى اعتبار إيران عدواً، وإسرائيل حليفة!
لم تصدر عن الخارجية المصرية إضاءات أخرى لحقيقة موقفها بكامل جوانبه، لكن ما صرح به «شكرى» يكفى لإعلان فشل المنتدى فيما راهنت عليه إسرائيل، وأن دورته الأولى قد تكون الأخيرة.
اختيرت القدس المحتلة موقعاً للاجتماع، الذى اسبغت عليه صفة «القمة الدبلوماسية»، تحفظت مصر على المكان المقترح حتى لا يكون ذلك اعترافاً بضم المدينة المقدسة إلى إسرائيل
حسب ما نشر فى الصحافة الإسرائيلية من إشارات وتسريبات فإن المشاركة المصرية بدت «اضطرارية»، بضغط أوضاع اقتصادية تفاقمت أزماتها بأثر الحرب الأوكرانية.
الضغوط وصلت إلى حدود الابتزاز السياسى من أطراف دولية وإقليمية سعت لتوريط مصر فى ذلك المستنقع.
اختيرت القدس المحتلة موقعاً للاجتماع، الذى اسبغت عليه صفة «القمة الدبلوماسية»، تحفظت مصر على المكان المقترح حتى لا يكون ذلك اعترافاً بضم المدينة المقدسة إلى إسرائيل.
هكذا جرى الذهاب إلى النقب بحمولة أقل من الرسائل والرموز والخسائر.
بنظرة على التحولات الجارية فى بنية النظام الدولى حاولت إسرائيل عبر «منتدى النقب» أن تؤكد للأطراف الدولية المتنازعة أنها مركز القوة والنفوذ فى الإقليم.
كان ذلك مدخلاً جديداً للهروب من أية استحقاقات قد تفاجئها بعد نهاية الحرب الأوكرانية عندما تستقر الحقائق الجديدة.
طرحت نفسها وسيطاً للسلام بين الروس والأوكرانيين، لم يكن السلام ما يعنيها، ولا النوازع الإنسانية ما يشغلها بقدر طلب الحضور على الأجندة الدولية كلاعب جوهرى لا يمكن الاستغناء عنه إذا ما جرت ترتيبات جديدة فى الإقليم.
بنظرة أخرى إلى فيينا، قرب التوصل إلى اتفاق نهائى يحيى الاتفاق النووى مع إيران فإن دواعى القلق الإسرائيلى أخذ مدى بعيداً، تهدد بالقوة ضد المشروع النووى الإيرانى دون أن تقدر على تحمل تكاليفها الباهظة على أمنها نفسه، ولا أن يكون بوسعها تحدى الإرادة الأمريكية.
استثمرت فى العمليات العسكرية ضد مواقع سعودية حساسة لتفزيع الخليج من أية فوائض قوة قد تمتلكها إيران بعد رفع العقوبات عنها، ولممارسة قدر أكبر من الضغط على الإدارة الأمريكية.
بمعنى آخر، حاولت إسرائيل من طرح فكرة المنتدى الآن قطع الطريق على أية تفاهمات ممكنة قد تحدث بين إيران والسعودية لتخفيف حدة التوترات فى الإقليم، أو أن تمضى التفاعلات المحتملة إلى وقف موجة «الاتفاقيات الإبراهيمية» ومد خطوط التواصل مع النظامين الإيرانى والسورى، والشواهد ماثلة بالاتصالات المعلنة وشبه المعلنة.
الدعوة إلى ذلك المنتدى بتوقيته وسياقه محاولة أخرى لقطع الطريق على أية أدوار مصرية ممكنة بأى مستقبل إذا ما ارتفعت إلى ما تستحقه من أدوار وأوزان.
فى أوضاع الحيرة والارتباك أخذ الإسرائيليون زمام المبادرة لتجسير فجوات الثقة بين الأمريكيين والخليجيين فى ملف الطاقة المأزوم دولياً على خلفية الحرب الأوكرانية دون أن يكون لديهم ما يقدمونه سوى إثارة المخاوف
بدا مثيراً للتساؤل مغزى وطبيعة دور وزير الخارجية الأمريكى «أنتونى بلينكن» فى «منتدى النقب»، فهو يعمل على النسخة الأخيرة من إحياء الاتفاق النووى الإيرانى، وهو مشروع إدماج ومصالحة لا صدام وحروب، لكنه بالوقت نفسه يحضر اجتماعا يسعى الإسرائيليون عبر منصته إلى بناء حلف أمنى ضد إيران!
يتحدث عن التطبيع وتوسيع المنتدى فى النقب ويدعو لمواصلة عملية السلام فى رام الله.
لا تمانع الولايات المتحدة فى المشروع الإسرائيلى لحصار إيران لكنها تعارض أية نزعة تهور تفسد رهاناتها، تطلب تطبيع العلاقات مع طهران دون أن تمكنها من حيازة فوائض قوة تهدد حلفاءها التقليديين.
تريد أن تتخفف من صداع الشرق الأوسط بالانسحاب إلى الشرق الأقصى حيث الصين والصراع معها على صدارة الاقتصاد العالمى، لكنها تعرف الآن أكثر من أى وقت مضى أن مثل هذا الانسحاب سوف يكون هزيمة استراتيجية ثقيلة بإخلاء الميدان كاملاً للدب الروسى وحده.
وفق «بلينكن»: «الولايات المتحدة لن تبرح الشرق الأوسط».
كانت تلك إشارة دالة إلى أنها لن تنسحب من الإقليم على ما كانت تخطط منذ عهد «باراك أوباما».
فى أوضاع الحيرة والارتباك أخذ الإسرائيليون زمام المبادرة لتجسير فجوات الثقة بين الأمريكيين والخليجيين فى ملف الطاقة المأزوم دولياً على خلفية الحرب الأوكرانية دون أن يكون لديهم ما يقدمونه سوى إثارة المخاوف.
هكذا بدت صورة «منتدى النقب» تعبيراً عن هواجس أمنية إسرائيلية حاولت أن تثبت دون جدوى أنها «دولة طبيعية» وأننا بصدد حقبة جديدة تقودها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“