إذا تتبعنا مسار زيارة الزعيم الصيني إلى موسكو وما رافقها من أحداث، نلاحظ، ومن دون عناء، أن ردود الفعل الأميركية والغربية إتسمت بالإنفعال أكثر من السلوك الهادىء. فقط قبل ساعات من وصول شي جين بينغ إلى مطار فنوكوفو الدولي بموسكو في العشرين من آذار/مارس، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية التي تتخذ لاهاي مقراً لها، مذكرة بإعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خلفية إتهامات موجهة إليه بالمسؤولية عن ترحيل أطفال أوكرانيين إلى الأراضي الروسية خلال الحرب “من دون سند قانوني”، وهو ما يُعدُ جريمة حرب تستوجب توقيفه.
الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة وسبق لإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن فرضت عقوبات على المحكمة، لكن يبدو أن بريطانيا قامت مقام أميركا، كون المدعي العام في المحكمة هو البريطاني من أصول باكستانية كريم خان. وإصدار مذكرة الإعتقال بهذا التوقيت كان المستهدف فيها شي جين بينغ أكثر من بوتين نفسه، وكأن المراد القول للرئيس الصيني أنك تقيم شراكة مع “مجرم حرب” وليس مع رئيس دولة كبرى نووية.
الرسالة الثانية كانت موجهة أيضاً إلى الصين تحديداً وإلى دورها المتصاعد عالمياً. إذ أنه بالتزامن مع زيارة شي جين بينغ، قفز رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا إلى كييف فجأة وذهب قبل مقابلة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، رأساً إلى بوتشا في ضواحي كييف التي تتهم أوكرانيا الجيش الروسي بإرتكاب أعمال قتل بحق المدنيين قبل الإنسحاب منها في نيسان/أبريل من العام الماضي. كأن المطلوب إبراز صورتين متناقضتين للصين واليابان. شي جين بينغ يوطد علاقاته مع دولة معتدية في المفهوم الغربي بينما يتعاطف كيشيدا مع المُعتَدى عليه. وهذا ما يتسق مع التصنيف الإيدولوجي للعالم بحسب رؤية الرئيس الأميركي جو بايدن: دول ديموقراطية وأخرى إستبدادية!
مع زيادة التبادلات التجارية ووضع الأساس لخط أنابيب “قوة سيبريا 2” لنقل مزيد من الغاز الروسي إلى الصين، وما يحكى عن تزويد بكين لموسكو بالكثير من التكنولوجيا التي حظرها عنها الغرب، تكون روسيا قد تمكنت من التغلب على الكثير من العقبات أمام آلتها الصناعية
لم يتأخر الرد الروسي على زيارة كيشيدا إلى كييف، فأرسلت موسكو قاذفات إستراتيجية حلّقت فوق بحر اليابان عندما كان رئيس الوزراء الياباني يتوعد موسكو بمزيد من العقوبات عندما ستعقد قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في طوكيو في أيار/مايو المقبل.
الرسالة الثالثة التي بعثت بها واشنطن خلال وجود شي جين بينغ في موسكو، كانت الإعلان عن تقديم حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بـ350 مليون دولار، وكذلك إفتتاح أول قاعدة عسكرية أميركية دائمة في بولونيا. وذهبت بريطانيا خطوة أبعد، بالإعلان عن عزمها تزويد أوكرانيا بقذائف تحتوي على اليورانيوم المستنفد يمكن أن تطلقها دبابات “تشالينجر-2” البريطانية المنوي تسليمها لكييف قريباً.
علاوة على ذلك، كرّر المسؤولون الأميركيون الحديث عن أن الصين ليست طرفاً محايداً في الحرب كي تكون مؤهلة لطرح مبادرة للسلام. وهم في ذلك يستبقون اللقاء الإفتراضي الذي سيعقد بين شي جين بينغ وزيلينسكي في الأيام المقبلة. الإعلان عن رفع مستوى المساعدات العسكرية الغربية وبينها قرار الإتحاد الأوروبي رصد ملياري دولار لشراء مليون قذيفة لأوكرانيا، الهدف منه ببساطة القول لزيلينسكي إن هذا ليس وقت إيقاف الحرب، وإنما المضي فيها حتى تحقيق إنتصار واضح على روسيا. الإنتصار الأوكراني وحده يمكن أن يحول دون المساس بهيمنة الغرب على النظام العالمي.
زيارة شي جين بينغ لموسكو أتت بعد تطور جيوسياسي كبير في الشرق الأوسط كان لبكين الباع الرئيسي فيه، عندما قرّرت السعودية وإيران معاودة العلاقات الديبلوماسية بينهما، في مؤشر أكيد إلى إنحسار الدور الأميركي التاريخي في المنطقة. وهذه الزيارة أتت عقب أيام من إجراء الصين وروسيا وإيران مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهندي، بينما تنظر واشنطن بخشية إلى إحتمال تبلور حلف صيني – روسي – إيراني، تنضم إليه لاحقاً دول في آسيا الوسطى، مما يشكل تحدياً إستراتيجياً جديداً للولايات المتحدة.
التحذيرات الأميركية للصين وإتهامها بأنها تعتزم تسليح روسيا، كانت لردع بكين عن المضي في سياسة التقارب مع موسكو. ويكفي أن تتحول السوق الصينية بديلاً لروسيا عن السوق الأوروبية، كي تفقد العقوبات الغربية الشاملة على موسكو الكثير من تأثيراتها.
ومع زيادة التبادلات التجارية بين روسيا والصين إلى 180 مليار دولار العام الماضي، ومع توقع إرتفاعها إلى 200 مليار دولار هذا العام، ومع وضع الأساس لخط أنابيب “قوة سيبريا 2” لنقل مزيد من الغاز الروسي إلى الصين، وما يحكى عن تزويد بكين لموسكو بالكثير من التكنولوجيا التي حظرها عنها الغرب، تكون روسيا قد تمكنت من التغلب على الكثير من العقبات أمام آلتها الصناعية.
لا تُقدِم بكين على هذه الخطوات مجاناً، وإنما لأهداف جيوسياسية في مقدمها إجهاض الجهود الأميركية المتزايدة لإحتواء الصعود الصيني. وماذا يعني تزويد أستراليا بغواصات أميركية وبريطانية تعمل بالطاقة النووية؟ وماذا يعني تخلي اليابان مؤخراً عن دستورها السلمي والإعلان عن زيادة موازنتها الدفاعية بنسبة هي الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية؟ وماذا يعني تنشيط تحالف “كواد” الرباعي مع أستراليا والهند واليابان؟ وماذا يعني تأسيس حلف “أوكوس” مع بريطانيا وأستراليا؟ وماذا تعني العقيدة العسكرية الجديدة لحلف شمال الأطلسي التي تعتبر الصين “تحدياً” يتعين التصدي له؟ وماذا يعني تعزيز القواعد الأميركية في الفيلبين والحصول على تسهيلات من أندونيسيا وماليزيا وفيتنام؟ وقبل أيام فقط سحبت أميركا مقاتلاتها الحديثة من الشرق الأوسط إلى أرض المواجهة مع الصين وروسيا، ولا لزوم للحديث عن تايوان ولا عن الحروب التجارية وفرض العقوبات بسبب هونغ كونغ وشينجيانغ.
هذه وغيرها تدل على إندفاعة أميركية لتطويق الصين ومطاردة نفوذها، ليس في المحيطين الهادىء والهندي فحسب، وإنما في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأميركا الجنوبية. وبرغم ذلك، فإن أميركا غير قادرة على الحسم في حرب باردة على مدى العالم. وعندما يوفد جو بايدن نائبته كامالا هاريس في جولة أفريقية اليوم كي تحذر دول القارة السمراء من تبعات تغلغل الصين وروسيا، يُسافر الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى بكين في زيارة ماراتونية لتعميق العلاقات التجارية بين البلدين العضوين في مجموعة “بريكس”. ومن المقرر أن يلحق به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المرهق بأزماته الداخلية، كي يبحث في مبادرة السلام حول أوكرانيا، في مطلع شهر نيسان/أبريل المقبل.
البحث الأميركي عن الهزيمة الروسية في الميدان الأوكراني يرفع أخطار نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بين أقوى دولتين نوويتين في العالم
رسم شي جين بينغ في موسكو توازناً دولياً جديداً، قوامه عدم التخلي عن روسيا والسعي في الوقت نفسه إلى إيجاد حل للنزاع الأوكراني خارج الوسائل العسكرية. وفي مقابل هذه المعادلة، تمضي أميركا في وجهة معاكسة، فتضغط على زيلينسكي كي يرفض المبادرة الصينية صراحة، وأن يسعى إلى إنتصارات ميدانية جديدة تفضي إلى هزيمة روسيا في أوكرانيا وبالتالي ترك بوتين يتحمل تبعات مثل هذه الهزيمة في الداخل الروسي، في حين تقوى عليه الضغوط الخارجية حتى لا يعود تغيير النظام الروسي أمراً مستحيلاً.
البحث الأميركي عن الهزيمة الروسية في الميدان الأوكراني يرفع أخطار نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بين أقوى دولتين نوويتين في العالم. إن الصدام الجوي الأول فوق البحر الأسود في 14 آذار/مارس الجاري، عندما أجبرت مقاتلات روسية مسيرة أميركية من طراز “إم كيو-9” عل الإصطدام بالماء، لم يثنِ واشنطن عن مواصلة النشاط الجوي قرب الحدود الروسية. نشاطٌ تقابله روسيا بطلعات متزايدة لمقاتلاتها فوق قاعدة التنف الأميركية عند نقطة الحدود السورية ـ العراقية – الأردنية. وفجأة يندلع التوتر بين الفصائل الموالية لإيران والقوات الأميركية في شرق سوريا. هذا يؤكد أن المتاعب لا تسير في إتجاه واحد فقط وأن أميركا نفسها يمكن أن تثار في وجهها حروب بالوكالة.
وعليه لن تبقى حادثة البحر الأسود هي الإستثناء. في لحظة الوداع خاطب شي جين بينغ نظيره الروسي قائلاً إن العالم “يشهد تغييرات لم يشهدها منذ مئة عام“. هذه المئة عام المشار إليها كانت القرن الأميركي. ماذا عن المئة عام المقبلة. هنا جوهر الصراع.