السؤال هنا؛ ماذا يجري بين الحليفين اللدودين مصر والسعودية؟ وهل طوى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صفحة الخلاف الذي تبدت ملامحه مؤخراً أم لا يني الجمر تحت الرماد؟
وقوف السعودية إلى جانب مصر ليس جديداً، فإذا ما استثنينا حرب اليمن (1962-1970)، ومقاطعة الدول العربية لمصر إثر اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وحقبة حكم “الإخوان المسلمين” اليتيمة (2012-2013)، فإن الخط البياني للعلاقة بينهما كان متصاعداً.
ولعل عهد الرئيس حسني مبارك هو خير شاهد على متانة تلك العلاقة المبنية على قاعدة “أن الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري”، و”مصر جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الخليجي”، و”التحالف الخليجي – المصري ضرورة لمواجهة المشاريع التي تحاك في الإقليم”. هذا فضلاً عن أسباب أخرى كانت تدفع المملكة لمساعدة مصر، بينها ما تُشكله مصر من حاجز مانع لتمدد “الإخوان المسلمين” في المنطقة. وعليه، استمرت العلاقة على هذا النحو مع تعهد دول الخليج بمد يد العون لمصر حتى آخر أيام مبارك في قصر الاتحادية.
ومع اندلاع ثورة 25 يناير ووصول “الإخوان” إلى الحكم، جنّدت السعودية كل قواها لإسقاط الحكم الجديد، فدعمت الجيش ثم وصول المشير عبد الفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة المصرية. وأغدقت بالمال والنفط والمساعدات والاستثمارات لدعم الاقتصاد المصري ومنع إنهياره. وقد تخطت المساعدات السعودية والخليجية لمصر بين العامين 2013 و2019 حدود الـ90 مليار دولار، حسب البنك المركزي المصري.
لكن لماذا أحجمت الرياض في السنتين الماضيتين عن الايفاء بوعودها الاستثمارية لمصر حتى راح صندوق النقد الدولي يحثُّ السعودية ودول الخليج للاستثمار في مصر وتأمين العملة الصعبة لبنكها المركزي بعد انهيار الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي؟ ولماذا تصر السعودية على سداد مصر ديوناً سابقة لشركة “آرامكو” ثمن شحنات نفطية قبل خمس سنوات؟.
من الواضح أن هناك العديد من الدول التي لم تمتلك بعد أسرار اللعبة السعودية الجديدة. ذلك أن مصر، كما غيرها من الدول، اعتادت على تلقي المساعدات من دول الخليج بلا أثمان مقابلة، لكن دول الخليج مع الجيل الثاني من قادتها، باتت تتغير، ولا سيما السعودية، التي تتعاطى مع الخارج (العربي وغير العربي) بلغة الأرقام، وصولاً إلى التأكيد أن حقبة المنح والهبات المجانية باتت من الماضي إلا عند الضرورة أو في سبيل مصلحة سياسية استراتيجية.
ولغة الأرقام هذه دعت المملكة إلى إحتساب استثماراتها جيداً في مصر، في الوقت الذي يسيطر جيش الأخيرة على معظم الاستثمارات في القطاع العام، وبالتالي فقدان الشفافية أو المنافسة الشريفة. هذا فضلاً عن أن كلفة اليد العاملة للجيش تساوي صفراً. وعليه، تتريث السعودية في السير بما استحوذته من استثمارات في مصر، وتفضل استحواذ الشركات المملوكة من القطاع الخاص تهرباً من الشراكة مع الجيش المصري.
حتى أن مطالبة دول الخليج لمصر بخلق بيئة ملائمة للاستثمار، ليست بالضرورة من باب التهرب أو الإبتزاز، بل لأن ذلك صار شرطاً دولياً سواء أكانت الاستثمارات الخليجية أو غير خليجية. “الخليج يريد الاستثمار والربح في مصر أو في أي بلد آخر، ولم يعد جمعية خيرية، وهذا يتطلب تخفيف القبضة العسكرية على الإقتصاد المصري لمصلحة مشاركة أكبر للقطاع الخاص”، يقول أحد الخبراء المتابعين لملف العلاقات الخليجية المصرية.
محمد سعيد إدريس لـ”180 بوست”: موضوع تعثر العلاقة بين البلدين “شائك والكتابة فيه ناتجة عن اجتهادات لا عن معلومات دقيقة.. فالمعلومات محجوبة ولا شيء رسمياً يقع بين أيدينا”، ويختم بالقول “ليست المرة الأولى التي تحصل فيها توترات بين مصر ودولة عربية شقيقة، إذ سرعان ما تعود الأمور مرة أخرى إلى وضعها الطبيعي”
وبالتالي، ما يصدر بين فترة وأخرى عن كتاب وصحافيين سعوديين قريبين من مركز القرار وعدم تأخر الرد من نظرائهم المصريين، لم يأتِ من فراغ. أما نفي السيسي وجود أزمة بين بلاده والمملكة، في الآونة الأخيرة، فكانت وظيفته وقف التراشق الإعلامي بين البلدين، وهو ما كان لينطلق أصلاً لولا “كبسة زر” من أهل الحل والربط في كلا الإتجاهين، فضلاً عن خروج كلام من الأروقة المغلقة في مصر يتضمن الكثير من الإنتقادات للقيادة السعودية على خلفية إنخراطها في حرب اليمن.
ويرى الباحث المصري د.محمد سعيد إدريس، في الضجة الإعلامية المثارة، أن “بعض الإعلام المتواطئ لا يُعبر عن وجهة نظر حقيقية لها احترامها عما يجري بين مصر والسعودية”، ويقول لـ”180 بوست” إن موضوع تعثر العلاقة بين البلدين “شائك والكتابة فيه ناتجة عن اجتهادات لا عن معلومات دقيقة.. فالمعلومات محجوبة ولا شيء رسمياً يقع بين أيدينا”، ويختم بالقول “ليست المرة الأولى التي تحصل فيها توترات بين مصر ودولة عربية شقيقة، إذ سرعان ما تعود الأمور مرة أخرى إلى وضعها الطبيعي”.
هذه “النوبات” من تعثر العلاقة بين البلدين لا تقتصر على تسكير صنبور المساعدات السعودية لمصر، إنما هناك أسباب أخرى ذات طبيعة إستراتيجية، تتقدمها مسألة تلكؤ القيادة المصرية في تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة، حيث تبذل الإدارة الأميركية قصارى جهدها لإنضاج التطبيع بين السعودية و”إسرائيل” لسببين؛ الأول، تدعيم التحالف الإسرائيلي-الخليجي ضد إيران. والثاني، حتى يسجل الرئيس جو بايدن إنجازاً شرق أوسطياً عجز عن تحقيقه سلفه الجمهوري دونالد ترامب، وذلك قبل نحو عام ونصف من موعد الانتخابات الأميركية المقررة في العام 2024.
ومصر في تلكؤها هذا تصيب عصفورين بحجر واحد؛ من جهة، تضغط على السعودية التي أسست لـ”رؤية 2030″ الشهيرة، ومن ضمنها بناء أحدث مدينة على البحر الأحمر (مدينة نيوم)، على اعتبار أن الجزيرتين المذكورتين هما في صلب هذه الرؤية، وتتيحان للمملكة حضوراً أكثر فعالية في البحر الأحمر، لا سيما من خلال سيطرة أو مشاركة خفر سواحلها في تأمين الملاحة في مضيق تيران المؤدي إلى ميناء إيلات “الإسرائيلي” والعقبة الأردني.
ومن جهة ثانية، يُلوّح السيسي للإدارة الأميركية بأن ثمة أوراق بيده يمكن ان يلعبها إذا ما استمرت الأخيرة في تقطير مساعداتها المخصصة لمصر، سواء العسكرية منها أم غير العسكرية، بذريعة عدم إيفاء القاهرة بشروط تتعلق بمسألة حقوق الإنسان.
وثمة عتب سعودي كبير على مصر التي أدارت ظهرها لكل المطالبات السعودية بالإنخراط العسكري المصري في حرب اليمن، غير أن حسابات المصريين كانت مختلفة في اليمن، مثلما هي مختلفة أيضاً في ساحات أخرى مثل فلسطين ولبنان وسوريا والأردن.
لطالما اعتمدت القاهرة سياسة توفيقية، باستثناء انخراطها في التحالف الرباعي لحصار قطر بين عامي 2017 و2021. وأكثر ما يخشاه بن سلمان هو تحرر السيسي من القيود الخليجية في رسم سياسات مصر الإقليمية، لا سيما لناحية علاقتها بتركيا الآيلة إلى التطبيع بعد لقاء السيسي بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على هامش افتتاح مونديال قطر، او لناحية تطوير علاقة مصر بإيران إذا تبدّدت الموانع الإقليمية والدولية.
لغة المصالح تتحكم بعلاقات الدول، وحال الدول العربية لا يخرج عن هذه القاعدة، برغم إدعاءات “الأُخوة”. وعليه، فإن سياسة “الأرقام” السعودية يصعب صرفها في مصر التي تحتاج إلى المنح والمساعدات الخليجية والأميركية وغيرها بصورة دائمة، تجنباً للانهيار الذي تخشاه كل الأطراف المعنية، إذ يعتبر انهيار مصر بمثابة سيناريو سيئ لجميع هذه الأطراف نظراً لما ينجم عنه من تداعيات تتخطى البعد المحلي إلى الإقليمي والدولي.