لم تأتِ نتيجة المحادثات السعودية الايرانية من الصفر بل هي تتويج لمسار بدأ في بغداد منذ أكثر من عامين (محادثات أمنية أكثر منها سياسية)، وساهمت سلطنة عمان في إستضافة الاتصالات السعودية الايرانية في شقها المتعلق بحرب اليمن وكيفية التوصل الى تسوية هناك.
وبرغم ما تم تسريبه عن جولة سادسة ستعقد في بغداد أو مسقط، كانت المفاجأة أن هذه الجولة عقدت في بكين على مدى خمسة أيام وتم تتويجها ببيان ثلاثي مشترك وقعت عليه الصين بالإضافة إلى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي السعودي الوزير مساعد العيبان – وهو أهم مستشار أمني وسياسي في الديوان الملكي ـ وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، وهو من بين أبرز المسؤولين الأمنيين والسياسيين في طهران.
ينبري السؤال الأول حول المشاركة والرعاية الصينية للاتفاق بناء على رغبة الطرفين السعودي والإيراني، وهو أمر يحتاج إلى تشريح ربطاً بالدور الصيني المتصاعد دولياً وإقليمياً، لكن المؤكد أن الرياض أرادت لبكين أن تكون “الضامن” لتنفيذ الاتفاق، وهو أمر يطمئنها بأن إيران لن تتراجع عما تم الاتفاق عليه، والأهم من ذلك أن روسيا كان لها دورها أيضاً في التوصل إلى الإتفاق الإيراني السعودي حيث شجّعت موسكو القيادة الإيرانية على التوصل إلى الإتفاق، وفق ديبلوماسي عربي في الرياض.
ذكر مصدر ديبلوماسي عربي في الرياض أن الاتفاق “عبارة عن خارطة طريق لحل المشاكل العالقة بين البلدين منذ اكثر من ثماني سنوات، وأولها وأهمها حرب اليمن”
ويوحي الحرص السعودي على مشاركة الصين ورعايتها للاتفاق بأن ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان أراد توجيه “صفعة” سياسية جديدة للإدارة الأميركية ورئيسها جو بايدن، فالرعاية الصينية لاتفاق طهران والرياض يُعطي الفرصة لبكين لإثبات أنها باتت لاعباً سياسياً دولياً كبيراً في العالم، مثلما تلعب دوراً سياسياً هاماً في منطقة الشرق الأوسط، وهذا الأمر بالطبع لا يُسِر – إن لم نقل يُغضب – واشنطن التي تدافع عن النظام الأحادي القطبية بزعامتها وحدها.
وما يؤكد الغضب الأميركي هو الموقف الذي عبّر عنه الناطق باسم مجلس الامن القومي الأميركي جون كيربي حين شكّك بالتزام طهران بالإتفاق وقال: «نحن نُرحب» بالاتفاق الدبلوماسي، مضيفاً “لكن ينبغي رؤية ما إذا كانت إيران ستفي بالتزاماتها”.
ولا شك أن إسرائيل هي الغاضب الأكبر من الإتفاق الإيراني السعودي ليس مخافة أن يؤدي إلى تأخير التطبيع بينها وبين المملكة بل لأنه سيُعقّد خططها لتوجيه ضربة عسكرية الى ايران وإمكان حصولها على تسهيلات لوجستية لذلك من كل من الامارات والبحرين اللتين تبرران هرولتهما للتطبيع مع العدو الاسرائيلي بأنه لحفظ أمنهما من التهديدات الإيرانية. لذا، قد لا يكون هذا الاتفاق مبعث سرور لهاتين الدولتين لا سيما البحرين التي ترى أن من مصلحتها توجيه ضربة عسكرية لإيران (لذا منحت تسهيلات عسكرية كبيرة لاسرائيل)، ولكن أبو ظبي والمنامة لن تستطيعا ابداء اي تحفظ على اتفاق بكين.
وتأمل الرياض أنه من خلال التوصل إلى هذا الاتفاق “ستُبعد المخاطر الايرانية التي كانت تُهدّد أمن الخليج”، على حد تعبير مسؤول خليجي، وعندما يُعقد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في منتصف الشهر الجاري ـ حسب المسؤول الخليجي نفسه ـ ستحصل السعودية على تأييد خليجي للإتفاق، ما سيجعلها تُعيد التأكيد على دورها الراعي لدول الخليج العربي وما يجعلها الدولة الاقليمية الوازنة في المنطقة والقادرة على خلق توازن اقليمي مع القوى الاقليمية الاخرى مثل تركيا وايران.
ولو أخذنا البيان السياسي الثلاثي، فإن أهم بند فيه بالنسبة للرياض هو “تأكيد الدولتين على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها”. ومسألة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول هي من أبرز نقاط الخلاف بين الرياض وطهران، وهذا ينطبق على اليمن، العراق، سوريا ولبنان.
والامر الآخر الهام في البيان الثلاثي هو الإعلان عن موافقة السعودية وإيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما في مهلة لا تزيد عن الشهرين. ومن المقرر أن يلتقي وزيرا الخارجية السعودي فيصل بن فرحان والايراني حسين أمير عبداللهيان خلال الأسبوعين القادمين للتباحث في الجوانب السياسية لاتفاق بكين ومنها اعلان فتح سفارتي بلديهما في الرياض وطهران.
وذكر مصدر ديبلوماسي عربي في الرياض (ابلغته وزارة الخارجية السعودية بالاتفاق صباح يوم الجمعة الماضي قبل الإعلان عنه) أن الاتفاق “عبارة عن خارطة طريق لحل المشاكل العالقة بين البلدين منذ اكثر من ثماني سنوات، وأولها وأهمها حرب اليمن”.
وكشف المصدر أن لقاءات سعودية – حوثية عقدت مؤخراً برعاية سلطنة عمان أفضت الى اتفاق مع الحوثيين يتضمن إقامة منطقة عازلة على الحدود بين شمال اليمن والسعودية، وفق ما جاء في اتفاق جدة عام 2000 الذي ثبّت الحدود القائمة بين البلدين. ونص الاتفاق على اقامة منطقة عازلة على طول الحدود بين البلدين بعرض 20 كيلومتراً وأنه لا يجوز لأي من الطرفين المتعاقدين حشد قواتهما المسلحة على مسافة تقل عن عشرين كيلومتراً على جانبي الحدود، ويقتصر نشاط أي طرف في كل جانب على تسيير دوريات أمن متنقلة بأسلحتها الاعتيادية.
ويتضمن الاتفاق السعودي الحوثي بنوداً تتعلق بفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء وتبادل الأسرى والمعتقلين على أن تقدم المملكة العربية السعودية مساعدات اقتصادية ومالية للحوثيين تساعد في تحسين الوضع الإقتصادي في مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن ولا سيما لجهة دفع رواتب الموظفين الحكوميين في شمال اليمن. وحسب المصدر السعودي، ترك الجانبان السعودي والإيراني لحلفائهما اليمنيين مهمة الإتفاق على ترتيبات تبادل الأسرى والمعتقلين وبنود أخرى.
ولا شك أن الرياض وجدت انه لم يكن من الممكن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق مع الحوثيين لولا تدخل ايران، وهذا ما اعتبر احد بوادر ابداء حسن النوايا من إيران تجاه المملكة، ويبدو ايضاً أنه برغم اعلان الحوثيين في شهر اكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي عن انتهاء الهدنة الانسانية، الا ان الملاحظ ان هناك هدنة غير معلنة بين الرياض والحوثيين، فلا الطائرات السعودية تقصف مواقع الحوثيين، وفي الوقت نفسه، لم يعد الحوثيون يستهدفون الاراضي والحدود السعودية بالصواريخ والمسيرات. هذه الهدنة غير المعلنة هي التي ساهمت في التأسيس لإتفاق بكين.
عندما يُعقد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في منتصف الشهر الجاري ـ حسب المسؤول الخليجي نفسه ـ ستحصل السعودية على تأييد خليجي للإتفاق، ما سيجعلها تُعيد التأكيد على دورها الراعي لدول الخليج العربي
ولكن الرياض التي تسعى منذ شهور وربما سنوات لإنهاء تورطها في مستنقع اليمن، لا تريد التخلي في الوقت نفسه عن الحكومة اليمنية الشرعية. لذا هي تصر على ان يكون أي اتفاق سياسي مع الحوثيين من خلال الحكومة الشرعية، وهذا ما ستظهره المفاوضات السعودية الايرانية خلال الاسابيع القلية المقبلة وكذلك المفاوضات التي إنطلقت في جنيف بين الحوثيين والحكومة الشرعية حول تبادل الأسرى برعاية مبعوث الأمم المتحدة.
وليس معروفاً حتى الآن ما إذا كانت هناك خارطة طريق تتعلق بحل المشاكل العالقة بين طهران والرياض في العديد من الساحات الإقليمية مثل لبنان وسوريا والعراق وكيفية التخفيف من النفوذ الإيراني في هذه البلدان.
وتكتفي المصادر السعودية بالقول إن كل شيء قابل للأخذ والرد والحل “لكن الأهم الآن حل هو مشكلة حرب اليمن وفق الأسس التي اتفق عليها ومتابعة تنفيذها واهمها التوصل الى حل سياسي بين جميع الاطراف اليمنية بمشاركة الحكومة الشرعية والحوثيين خلال اسابيع قليلة لا تتعدى مهلة الشهرين التي إتفق الجانبان الإيراني والسعودي عليها بوصفها ستكون مهلة إختبار في العديد من الساحات ولا سيما في اليمن”.