تركيا فى لحظة اضطراب استثنائية بأثر الزلازل المروعة التى ضربت جنوبها، قتلت ودمرت وشردت مئات آلاف الأسر.
والرئيس الحالى «رجب طيب أردوغان» فى لحظة اختبار غير مسبوقة بحجم تحدياتها وأزماتها، التى تتهدد مستقبله السياسى بعد عشرين سنة متصلة على رأس السلطة.
الانتخابات تكتسب أهميتها من اختبارين رئيسيين:
الأول، وقع الزلزال وخسائره المهولة على الرأى العام ونظرته إلى مدى مسئولية «أردوغان» فى توفير إجراءات سلامة المبانى التى تهدمت وكفاءة إدارته للأزمة فى ظل الترويع العام الذى ضرب البلاد.
الثانى، تراجع الأحوال الاقتصادية وتصدع قيمة الليرة التركية بعد سنوات من الانتعاش والآمال الواسعة أن يكون القرن الحادى والعشرين قرنا تركيا فى الإقليم.
مسئولية «أردوغان» تطرح نفسها مجددا على الرأى العام داخلا فيها إدارته للملفات الإقليمية المتفجرة فى سوريا وليبيا والنزاع مع مصر والخليج.
بالحسابات السياسية لما بعد الزلزال لم يعد ممكنا لأنقرة أن تمضى فيما كانت فيه، كأن شيئا لم يحدث.
إذا ما أصبح «كليجدار» رئيسا فإنه سوف يمضى أبعد من «أردوغان» فى هذا المنحى التصالحى، فهو طالما انتقد بحدة بالغة المواقف والسياسات الرسمية فى الأزمة السورية، وعلاقاته مع النظام السورى تتسم بشىء من الود والتفاهم
الأطراف السياسية المتنافسة فى حلبة الانتخابات العامة تدرك جميعها أن شيئا جوهريا قد تغير فى بنية المجتمع التركى دون أن تكون على يقين من اتجاهاته التصويتية.
السيولة السياسية تغلب المشهد التركى.
المعارضة تعتقد أن فرصتها قد حانت لإزاحة «أردوغان» عن السلطة، وهو يراهن على صورته كـ«رجل قوى» بوسعه أن يتجاوز المحنة بأقل خسائر ممكنة واثقا من شعبيته التى دعته إلى عدم تأجيل الانتخابات عن موعدها (14) مايو/أيار المقبل.
التوظيف السياسى لمحنة الزلازل حادث لا محالة.
هو نفسه استثمر سياسيا فى زلزال آخر استبق صعوده إلى السلطة.
دعواته المتواترة إلى عدم تسييس الزلزال فى المعركة الانتخابية لا تعنى شيئا.
لن يتوانى معارضو “أردوغان” عن تسييس الزلازل، وقد نجحوا بشق الأنفس فى التوافق على مرشح رئاسى واحد باسم التحالف السداسى بأمل إزاحته.
ذلك الأمل استدعى وحدة المعارضة حول مرشح واحد هو «كمال كليجدار أوغلو»، زعيم حزب «الشعب الجمهورى»، حزب «مصطفى كمال أتاتورك» مؤسس الجمهورية التركية، الذى يحوز حاليا على الكتلة البرلمانية الثانية بعد الحزب الحاكم «العدالة والتنمية».
لم يكن ذلك أمرا سهلا، استغرقت اجتماعات ومناوشات المعارضة وقتا طويلا حتى استقرت على مرشحها الرئاسى.
الرغبة المشتركة الجامحة فى إطاحة «أردوغان» جعلت التوافق ممكنا.
«كليجدار» يفتقر إلى الكاريزما والقدرات الخطابية الملهمة، لكنه محنك وقدير ويبدو بديلا مقنعا لـ«أردوغان».
المعركة الانتخابية ليست مضمونة هذه المرة.
الملفات كلها مفتوحة أمام الرأى العام التركى والعالم العربى طرف رئيسى فيها.
يدرك «أردوغان» أنه فى حاجة ماسة إلى تصويب البوصلة السياسية والاستراتيجية بالانفتاح على مصر دون إغلاق جميع ملفات التنازع وأخطرها غاز البحر المتوسط وانفتاح مماثل على الخليج بدواعى تنشيط الاقتصاد العليل وتخفيض درجة التوتر فى الإقليم.
الحقائق استدعت التغييرات فى البوصلة التركية.
الملف الليبى يكتسب خطورته من حجم التدخل التركى فيه والمصالح المرتبطة به.
سواء حصد «أردوعان» الانتخابات أو خسرها فإن تركيا لن تخلى مواقعها فى طرابلس وسوف تظل لاعبا رئيسيا بأى مدى منظور فى حسابات القوة والنفوذ والمستقبل.
ربما يصبح التفاهم أسهل نسبيا إذا ما حصد «كليجدار» المنصب الرئاسى، لكن الخطوط الرئيسية تظل على حالها.
بصورة أو أخرى فإن المعارضة التركية أميل من «أردوغان» للتهدئة مع مصر والخليج حيث ظلت تنتقد على مدى سنوات انحيازاته إلى جماعة «الإخوان المسلمين» إثر إطاحتها من الحكم.
تحت الضغط الداخلى المتواصل أبدى «أردوغان» استعدادا متصاعدا للتحلل من علاقاته بالجماعة، والتخفف فى نفس الوقت من أثقال «العثمانية الجديدة»، وهو تعبير سياسى وأيديولوجى أطلقه أحد رفاقه التاريخيين «أحمد داود أوغلو»، الذى انشق عليه وهو الآن طرف رئيسى فى تحالف المعارضة.
يدرك «أردوغان» أنه فى حاجة ماسة إلى تصويب البوصلة السياسية والاستراتيجية بالانفتاح على مصر دون إغلاق جميع ملفات التنازع وأخطرها غاز البحر المتوسط وانفتاح مماثل على الخليج بدواعى تنشيط الاقتصاد العليل وتخفيض درجة التوتر فى الإقليم
بأية حسابات سياسية كانت الاتصالات والمساعدات العربية التى قدمت لتركيا للتخفيف من فداحة الزلازل تعبيرا عن التحسن فى مستوى العلاقات وإشارة أنها صارت مفتوحة لبناء صفحة جديدة.
سواء نجح أو أخفق «أردوغان” فى السباق الانتخابى فإن هذا التوجه سوف يأخذ مداه.
وقد يساعد التعاطف العربى الواسع مع الشعب السورى، الذى وجد نفسه شبه وحيدا تحت صدمة الزلزال، إلى لفت الانتباه أن الوقت قد حان لإنهاء عزلة سوريا وتضميد جراحه.
يستلفت الانتباه فى المتغيرات التركية توجهها المعلن لفتح صفحة جديدة مع دمشق، اجتماعات أمنية واستخباراتية شبه معلنة، اجتماعات أخرى دبلوماسية فى موسكو على مستوى نواب وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا وإيران تمهيدا لاجتماع على مستوى وزارى ربما يستبق اجتماعا مقررا بين الرئيسين التركى والسورى.
إذا ما أصبح «كليجدار» رئيسا فإنه سوف يمضى أبعد من «أردوغان» فى هذا المنحى التصالحى، فهو طالما انتقد بحدة بالغة المواقف والسياسات الرسمية فى الأزمة السورية، وعلاقاته مع النظام السورى تتسم بشىء من الود والتفاهم.
الملف الكردى يطرح نفسه لاعبا رئيسيا فى الانتخابات.
الأقلية العرقية الكردية باليقين سوف تصب أصواتها فى خانة معارضى «أردوغان» أملا فى تخفيف معاناتها الداخلية.
قد يميل الغرب إلى التخلص من «صداع أردوغان» وممانعته فى ضم السويد وفنلندا إلى حلف «الناتو« على خلفية اتهامه للدولتين بإيواء وحماية جماعات كردية يصنفها على أنها إرهابية.
هكذا فإن برامج وخيارات «أردوغان» الداخلية الملحة محكومة بأوضاع وحسابات استراتيجية عديدة، بعضها تحبذ بقاءه فى السلطة وبعضها الآخر تعمل على إخراجه من المشهد كله.
القضية ليست أن يبقى أو يغادر مقعده الرئاسى، فهذه مسألة يقررها الأتراك أنفسهم فى صناديق الاقتراع.
الأهم أن ندرك ما يحدث حولنا فى الإقليم المضطرب ومواضع أقدامنا فيه.. وكيف نتصرف وفق مصالحنا العليا وحدها؟
(*) بالتزامن مع “الشروق“