هناك مغالطة كبيرة في هذه المقولة. صحيحٌ أنّ الاستبداد يُقيّد الحريّات السياسيّة، فهذه هي طبيعته. ولكنّ كلّ تغييرٍ سياسيّ رسا إلى انتزاع حريّات عامّة وتداولٍ على السلطة، في أيّ مكانٍ وزمانٍ في العالم، خرج بالتحديد من ثنايا “الصحراء” التي فرضها هذا الاستبداد. كما أنّ التغيير عسيرٌ حتّى في أنظمة تسمح بالحريّات العامّة، وتجري فيها انتخابات “ديمقراطيّة”، لأنّ قوى سياسيّة متمرّسة تهيمن تاريخيّاً على السلطة وتتقاسمها، دون السماح لأيّ لاعبٍ جديد بتقويض “اللعبة الديموقراطيّة”.
وليس صحيحاً القول إنّ السياسة كانت غائبة في البلدان العربيّة، وما تزال. بل هناك في هذه البلدان اهتمامٌ شعبيّ بالسياسة المحليّة والإقليميّة والدوليّة أكثر من بلدانٍ تنعم بحريّات وديموقراطيات راسخة، كما الولايات المتحدة وأوروبا. إذ تعيش البلدان العربيّة أشكال عجزٍ واضحة في السياسات العامّة المحليّة، كما أنّ كثيراً من البلدان العربيّة تشهد تدخّلات واضحة لـ”لعبة الأمم” الإقليميّة والدوليّة في أمورها، أضِف إلى هذا العدوان الصهيونيّ المستمرّ.
كذلك ليس دقيقاً القول إنّ السنوات الأخيرة التي سبقت 2010-2011 كانت الأكثر تشدّداً في قمع الحريّات العامّة والسياسيّة، بل السنوات التي سبقتها كانت أكثر “ظلاماً”. وجميع هذه الدول عرفت أحزاباً سياسيّة، غير تلك التي ترعاها السلطات القائمة، وإن لم يكُن مجموع أعضائها كبيراً وكان حضورها الاجتماعي متواضعاً. كما عرفت شخصيّات اشتهرت بدورها السياسي، إن كان من ضمن عملها في مؤسسات الدولة والمواقف التي اتخذتها، أو أنّها قادت تيارات سياسيّة مناهضة للسلطة القائمة واشتهرت بدخولها السجون لفترات طويلة واكتسبت من جرّاء ذلك “شرعيّةً” شعبيّةً ما. هكذا يكمُن السؤال الحقيقي في ما قدّمته هذه الأحزاب أو هذه الشخصيّات في لحظة بروز الانتفاضات كي تؤطِّر “المغامرة الشعبيّة” وتقودها لتحقِّق لها إنجازات، على صعيدي التحوّلات الداخليّة والمِنعة من تأثيرات الخارج، على السواء؟
هذه الريادة والجرأة السياسيّة لا يتمّ تعليمها داخل جدران معاهد العلوم السياسيّة. ولا توفّر الديموقراطيات حُكماً أرضيّتهما ولا تمنع سجون الاستبداد اكتسابهما. إنّها فنّ. ليست فقط “فنّ تحقيق المُمكِن” كما يقال عن السياسة، بل إنّها بالمعنى الحقيقي والأسمى فنّ التمييز بين ما ينفع المجتمع وما يضرّه
تاريخ الشعوب ليس مجرّد لحظات. انتفاضات شعبيّة و”ثورات”. فالشعوب لا تنتفِض بزخم إلاّ من جرّاء تحوّلات اجتماعيّة اقتصاديّة عميقة تتفجّر. ولا يُمكِن حتّى للقوى الخارجيّة التي تمتلِك وسائل “قوّة ناعمة” ضخمة أن تدفع لهكذا “ثورات” إن لم ترفِد أصلاً تحوّلات اجتماعيّة اقتصاديّة قائمة. بل إنّها بالضبط تحاول أن تستفيد من هذه التحوّلات كي تفرض هيمنتها.
كما أن الانتفاضات والثورات الشعبيّة يمكِن ألاّ تأخذ سوى إلى الفوضى، إن لم يكُن هنالك “ريادة سياسيّة” بديلة تستطيع أن تحمِل الطموحات وتجّسدها، وتكسب لصالح التغيير أغلبيّة المجتمع وكذلك مؤسّسات الدولة على السواء. لكن الريادة السياسيّة لا يُمكِن أن تميل لصالح فئةٍ من الشعب ضدّ فئة أخرى، خاصّة وبالتحديد لأنّ السلطة القائمة ستستخدم التفرقة والشرذمة للبقاء في موقعها. كما لا معنى أن تنقاد هذه الريادة السياسيّة إلى مطالبة قوى خارجيّة كي تُحدِث التغيير عبر استخدام القوّة العسكريّة أو العقوبات. كما لا معنى أن تصرخ عبر وسائل الإعلام أنّ “النظام سيسقط يوم العيد”، في ظلّ غياب ميزان قوى شعبيّ يؤدّي إلى ذلك، ويُقتَل الكثيرون من أجل وهمٍ وتؤخذ البلاد إلى حربٍ أهليّة. الريادة السياسيّة هي بالتحديد عدم انجرار الانتفاضة إلى فوضى، بل ضبط إيقاعها، زخماً أو انكفاءً، كي يتمّ حشد قوى المجتمع والدولة وراء الهدف الأساس، الذي ليس هو “الثورة” بحدّ ذاتها، بل صلاح المجتمع والدولة والبلاد ومنعتها تجاه الخارج.
ولا يُمكن أن تنشأ ريادة سياسيّة دون فهمٍ عميق للتحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة ضمن البلاد أوّلاً، أبعد من الإيديولوجيّات الموروثة عن العهود السابقة، وعن الصراعات الإقليميّة والدوليّة القائمة اليوم.
كلّ هذا يتطلّب جرأة “سياسيّة” بالتحديد، ومخاطرة الوقوف أمام جرف العواصف، في موازنة عقلانيّة للقوى الموجودة على أرض الواقع وفي المحيط، وما يُمكِن تحقيقه في مرحلةٍ تاريخيّةٍ ما. ذلك أنّ السهولة تكمُن في الانصياع إلى صراخ “نحن نريد إسقاط النظام دون الحديث في السياسة” أو إلى “نغمات حوريّات البحر” في المحطّات الفضائيّة، التي تخضع هي أصلاً لسياسة مالكيها ومموّليها. وجرأة تتطلّب أيضاً وضع برنامجٍ واضح يحتاج جهداً حقيقيّاً، سواءً في إعداده أو في حشد التوافق عليه من المجتمع ومن مؤسّسات الدولة.
هذه الريادة والجرأة السياسيّة لا يتمّ تعليمها داخل جدران معاهد العلوم السياسيّة. ولا توفّر الديموقراطيات حُكماً أرضيّتهما ولا تمنع سجون الاستبداد اكتسابهما. إنّها فنّ. ليست فقط “فنّ تحقيق المُمكِن” كما يقال عن السياسة، بل إنّها بالمعنى الحقيقي والأسمى فنّ التمييز بين ما ينفع المجتمع وما يضرّه.
لا يعني ذلك التخلّي عن المبادئ، بل على العكس التمسّك بها والوعي بأنّ اللحظة التاريخيّة وموازين القوى ليست مناسبة أحياناً، ومن الأفضل الصمود على الأسس، وربمّا الانكفاء وتسجيل الموقف. إذ لا معنى للانخراط في عاصفة لا تجِلب الخير للناس، لكلّ المجتمع، في حين تخدم هذه العاصفة مصالح الخارج أكثر من الداخل ومصالح السلطة القائمة أكثر من “الثورة”. كما أنّ لا شيء يستحقّ أن يُدمِّر ويُقسِّم بلداً أو يُقتَل الآلاف من أبنائه دون جدوى.
ليس العمل على إخراج بلادٍ من الاستبداد إلى الحريّات أمراً سهلاً. وليس سهلاً معافاة مجتمعٍ من حربه الأهليّة. ولا يجب الاستخفاف بصعوبات إصلاح الاقتصاد السياسي التي تقوم على ريوعه قوى الهمينة، الداخليّة والخارجيّة. وكلّ من تحمّلوا عبر التاريخ مسؤوليّةً كهذه وظّفوا لحظات نادرة للعمل قاموا بها من أجل المجتمع وبلادهم. ولكن هذه اللحظات يُمكِن ألاّ تأتي، ويبقى الموقف.
لا “صحراء” في السياسة. هناك فقط قيظ وعطش ورمال وعواصف. ومن حينٍ إلى آخر نبعُ ماء.. ونخلة أمل.