أول ما تقعُ عينك عليه بعد العنوان الذي يشكل الثريا المضيئة فوق النصوص (“قماش من أثير“) هو الإهداء، ليسحركَ النص المقتضب والمُعبّر فتدسُ نفسك فيه، “إلى حيث نظرت مراراً وتكراراً إلى الكون”.
هكذا يبدأ ديوان “قماش من أثير“، تُسلمنا حكمت مفتاح قصائدها، فندخل سوية إلى صفحات مغمسة بريشة شاعرة مميزة، نقرأ معها الجمال بوصفه جزءاً يسيراً من هذا الكون الفسيح، وننظر معها إلى إنزلاق الأشعة حين الإمتلاء، فيفيض الزرع والكلمات.
لا أعلم كيف يمكن الولوج إلى وجدان شاعر/ة؛ هذه مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة. لكل شاعر/ة عالمه/ها ومن أغبى الأشياء أن نأخذ القصيدة ونبدأ بتفكيكها وتحليل معناها؛ هذه مهمة تتناقض وروح الشعر، لكأننا نبيح إنشاء محاكم تحريم الخيال.. والقصيدة.
يبدو لي أن الخيال الذي يطلقه الشعر في القارىء هو أعظم مِنح الشعر وألذها.
هكذا تفلت فراشات وأضواء من قصائد الشاعرة حكمت حسن، نتبعها ونحلق في فضاء من شمس وغيم.
عندما تُعرّف الشاعرة عن نفسها تقول “أكتب أحياناً، أكتب دائماً”. سأقفز إلى سؤال الكتابة مُجدداً: لماذا ولمن نكتب الشعر؟
“الشعرُ أكثرُ هشاشة من أن يُغيّر شيئاً خارج كينونة كاتبه، وليس دائماً ما يكون هذا التغيير إيجابياً، فقد يجعل الشعر كاتبه مصاباً بجنون العظمة، أو قد يجعله هشاً حد الإقدام على الانتحار، أو قد يجعله متمرساً في اقتناص الحياة إلى حد خوض أشنع التجارب وأكثرها انحطاطاً”، كما تُردد الزميلة الكاتبة رشا عمران.
لكل شاعر/ة عالمه، ولكل قصته، خياله، مفرداته، تقنياته، ولا أحد منا يشبه الآخر.
لقد تعرّفت على الشاعرة حكمت حسن عبر الفضاء الأزرق وتواصلنا بطرق شتى. قرأنا قصائدنا عبر الأثير ووجدنا بيننا بعض الإنسيابات التعبيرية المشتركة: نزوع قوي نحو الفلسفة وتعميق الدلالات وجعلها حمّالة أوجه وتدليل للمجاز والمزاج. لاحقاً تهاتفنا واتفقنا على لقاء أخّرته ظروف البلد وكورونا وبعض تكاسل متبادل منا.
أثناء توقيع كتابها الرابع، كانت تجلس في حضن إبنتيها وضحكتها تكاد تفلت أبعد من المكان. كانت فرحة بكتابها الجديد في جناح “دار نلسن”. بعد السلام وطيب الكلام والصورة التي لا بد منها.. لمست حرارتها وحرارة مولودها الرابع. كانت تجربة جديدة تدل على أن العالم الإفتراضي (الفايسبوك) يمكن أن يُكسبك صداقات فعلية في الحياة وليس مجرد جدار أو فضاء وهمي.
لا تملك حكمت جواباً على سؤال الشعر مثل كثيرين من الشاعرات والشعراء. لا تكتب شاعرتنا من فراغ؛ هناك عمق وثراء فكري خلف القلم الشفيف، ولا لكي تجني مالاً من هذه المجموعة الشعرية، فالشعر بالنسبة إليها نمط حياة يشبه الإتحاد مع الطبيعة التي تعيش بين جنباتها.
تكتب حكمت بشغف لكي تثبت حريتها وحرارتها وحركيتها. تحيلني مباشرة إلى السؤال الثاني: هل كلنا شعراء؟
قد يبدو للوهلة الأولى الجواب إيجابياً إذا ما توفرت الشعلة واللغة العميقة الكثيفة برموزها ومدلولاتها المجازية التي تنحو بها إلى الجمال المطلق.
بإمكان الحب أن يجعلك شاعراً وقد يفعل الموت ذلك، وقد لا يفعل بك كل هذا.
غالباً ما يكون السرد الشعري سواء أكان قصة أو كلمة أو صورة حاملاً ضده في داخله، لتكتمل الصورة أو الرسم؛ في تجاوز فريد من نوعه يجعل السرد خيالاً جذاباً وخطاباً مستحيلاً، ومن ثم سيحرمنا الخطاب السردي، حسب تصوُّر موريس بلانشو الفيلسوف الفرنسي، “من النهاية المثالية من دون أن يحرمنا من الوهم”. تشكيل فانتازي يهيمن عليه احتشاد الأضداد وتعايشها في اقتراب هارموني يمثّل الفكرة المهمّة عند بلانشو حول الكتابة، وهي أن الموت “يسيطر علينا، لكنّ هيمنته تتأتّى من خلال استحالته”. يرى بلانشو أنّ الكتابة “حرفة مهولة، محفوفة بالألم، فهي تنتجه وتتعلّق بالموت تعلُّقاً كبيراً، الذي يتجلّى فيها بشكلٍ حادّ وطارئ”، وهو ما يدفع بلانشو للحديث عن “فنّ الموت”، عندما يُعَلَّق الحلم ليبزغ كلّ الألم، ليكون في انتظارك.
يضعنا ديوان الشاعرة حكمت حسن “قماش من أثير” أمام المحسوس واللامحسوس مثل يوم يتأرجح في بدايته من العتمة الأولى حتى العتمة الثانية ومن ثم العتمة التي لا قعر لها، وليس بوسعك إلا أن تشهق من الضوء الذي يمكن أن يتراءى لك بين عتمة وأخرى.
ولحكمت حسن المربية والأكاديمية والكاتبة الصحفية والشاعرة بصمة لا يمكنك التغافل عنها في نصوصها المنضبطة بإيقاع شديد الإنتظام والتركيز ولكنه متحرر من القوالب الجاهزة.
“لعل وعسى
ماذا لو صرنا جذوراً
وكان التراب فضاءنا
أو راقت لنا دروب العتم
وصارت موعداً
وتدلت السماء
أغصاناً رصيداً من هواء مسجون
ماذا لو إهتز تراب حين القلق
وفي أوجاعه يباس
أتكون الأسرار حاجة
والأقفال هدفاً مرجواً”؟
هذه قصيدة تحمل ثقل الأسئلة الكبرى والوجود. الحقيقة والسر وما يقع بينهما.
وعلى هذا المنوال، أشرقت قصائد الديوان بالكثير من الحب والبحر والفضاء والطبيعة والصمت والكلام والكون والثلج والنار بلغة بسيطة في عمقها وبلاغتها، مغرقة في العذوبة والحكمة وكان له من إسمها النصيب الأكبر.
ننتظر من حكمت حسن دائماً ما هو أجمل وأمتع وأكثر قلقاً في هذا الزمن الذي يطرح أسئلة وجودية يومية علينا.
الشعر يزهو حين تخطه يد شاعرة ماهرة، ملمة بتفاصيل الكتابة وعلم النفس وعالم الفكر.