شارون وعرفات.. قصة مطاردة “السمكة المالحة” في بيروت (45)

في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، يروي الكاتب "الإسرائيلي" رونين بيرغمان عملية "السمكة المالحة"، أي قصة مطاردة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من بناية إلى بناية في بيروت المحاصرة في صيف العام 1982.

في روايته للغزو الصهيوني للبنان عام 1982، يتهم الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية”، وزير الدفاع “الاسرائيلي” حينها ارييل شارون بالكذب والخداع وممارسة كل الحيل على رئيس وزرائه مناحيم بيغن والحكومة “الاسرائيلية” المصغرة لتمرير مشروعه باعادة صياغة كل منطقة الشرق الاوسط من خلال تدمير منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وقتل كل اعضاء قيادتها ولا سيما ياسر عرفات، وتهجير الفلسطينيين الى الاردن لاسقاط العرش الهاشمي واقامة الوطن الفلسطيني البديل هناك، وتنصيب القائد الكتائبي اللبناني بشير الجميل رئيساً للبنان وتوقيع اتفاق سلام معه. هذا المشروع أطلقه شارون مع نيله موافقة الحكومة على عملية “تغلغل محدود” داخل الاراضي اللبنانية تصل الى عمق اربعين كيلومترا (إلى ضفاف نهر الليطاني)، وهو بحسب زعمه اقصى مدى يمكن أن تُطلَق عبره الصواريخ الفلسطينية، وأبرزها الكاتيوشا على الجليل الأعلى. وعلى الرغم من كل التحذيرات التي تلقاها بيغن من اجهزة استخباراته بإحتمال التورط بمشروع أكبر من “التغلغل المحدود” الذي يتحدث عنه شارون، فقد اعطى بيغن الامر ببدء العملية.

في معرض سرده يستفيض بيرغمان في شرح عمليات المطاردة التي قامت بها وحدة خاصة مكلفة بقتل ياسر عرفات تحت اسم “عملية السمكة المالحة”، وفي هذا السرد المشوق يمارس بيرغمان التعمية على كل ما ارتكبته القوات الاسرائيلية من مجازر ضد المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين بالقصف الهمجي براً وبحراً وجواً، وذلك تحت غطاء الحديث عن العمليات الجيمس بوندية لقتل عرفات.

ينقل بيرغمان عن العميد ازرائيل نيفو، المساعد العسكري لبيغن قوله “لقد رأيت ان خطة الاربعين كيلومتراً بدأت تتلاشى وتذوب بسرعة، لقد كذب شارون وضلّل بيغن والحكومة المصغرة، فقد كانت تكمن عظمته بأنه كان يعرف كيف يصف باكثر الطرق حيوية، لماذا كان من الضروري التقدم بضعة كيلومترات اضافية، لانه ما لم يحصل ذلك فان القوات السورية ستصبح صبيحة اليوم التالي على قمة تلة مشرفة على قواتنا وتهدد سلامتها بالخطر”. بهذه الطريقة استطاع شارون الحصول على التفويض من الحكومة المصغرة لمواصلة زحف قواته شمالاً.

بشير الجميل لشارون: اعلانكم عدم النية لدخول بيروت لا يساعد في هذه الحملة لانه يؤدي إلى تقوية الروح المعنوية للفلسطينيين والمسلمين ويعيق العملية السياسية. عليكم مواصلة القصف الجوي بعنف لان القصف المدفعي لا يؤثر عليهم فهم معتادون عليه

في الخامس والعشرين من يونيو/حزيران، كانت القوات “الاسرائيلية” قد اكملت حصارها لبيروت، اي ابعد بكثير من الأربعين كيلومتراً التي كان قد الإتفاق عليها مع الحكومة المصغرة، وبدأت عملية الحصار والقصف المروعين للاحياء الغربية للمدينة. وقد أمل شارون ان يشارك الكتائبيون في القتال ضد منظمة التحرير الفلسطينية وأن يكونوا وقوداً للمدافع “الاسرائيلية” في المعركة، وكانت هذه المشاركة مطلوبة بصورة خاصة في الاماكن المكتظة سكانياً. في المقابل، راهن الكتائبيون على قيام القوات “الاسرائيلية” بالقتال كي تستطيع فرض هيمنة حزب الكتائب على لبنان. وهنا ينقل بيرغمان عن مساعد بيغن (نيفو) قوله “لقد كان جهاز الموساد الذي يتولى العلاقة مع الكتائب على خطأ تماماً في قراءته للوضع في لبنان ولقدرات المسيحيين ونواياهم، فكل ما فعلوه هو انهم قادونا باتجاه الممر عبر تزيينه لنا بالورود فقط”.

وحسب بيرغمان، فإن قادة الكتائب حثوا “اسرائيل” على التوغل اعمق واعمق في الاراضي اللبنانية واعدين بتقديم العون العسكري الذي لم يترجم ميدانياً ابداً. ويقول بيرغمان ان بشير الجميل وخلال اجتماع جمعه برئيس الاركان “الاسرائيلي” رافاييل ايتان في 16 يونيو/حزيران دعاه إلى الدخول الى بيروت قائلاً “ان اعلانكم عدم النية لدخول بيروت لا يساعد في هذه الحملة لانه يؤدي إلى تقوية الروح المعنوية للفلسطينيين والمسلمين ويعيق العملية السياسية. عليكم مواصلة القصف الجوي بعنف لان القصف المدفعي لا يؤثر عليهم فهم معتادون عليه”.

لقد كان الجميل وشارون وايتان يخططون سراً لدخول بيروت في عملية مركبة اسميت “الشرارة”، وخلال اجتماع عقد في منزل شارون في الاول من اغسطس/اب، بحضور قادة الجيش “الاسرائيلي” و”الموساد”، سأل شارون بشير الجميل “هل يمكنك ان تقطع المياه عن بيروت ثانية؟” عاكساً بسؤاله هذا رغبته بممارسة اقصى ضغط ممكن على الفلسطينيين والسوريين لدفعهم الى الانسحاب من بيروت، فاجابه الجميل “يمكننا ذلك بغطاء منكم”، فوافق شارون قائلا “اوكي، ولكن علينا ان نترك المياه جارية يوم الاثنين عندما يكون وزير الخارجية الاميركي جورج شولتز في اجتماع مع نظيره الاسرائيلي اسحاق شامير”.

ويقول بيرغمان لقد سمع وزراء الحكومة المصغرة لاحقاً ان شارون اعطى الاوامر، للمرة الاولى بتاريخ “اسرائيل”، بغزو عاصمة دولة دولة اخرى ذات سيادة، وفي الحقيقة فان شارون وطوال فترة حرب العام 1982 لم ينفك يؤكد للحكومة المصغرة وللكنيست بان “لا نية لدينا لدخول بيروت”، وقد أعاد تكرار وعده هذا مراراً وتكراراً ولكن الامر الذي اصدره شارون للجيش كان واضحاً جداً: “علينا انهاء الوضع في الجزء الجنوبي لبيروت” حيث تتواجد مخيمات النازحين الفلسطينيين وقواعد منظمة التحرير الفلسطينية (مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة)، وقال شارون خلال اجتماع في مكتبه في 11 يوليو/تموز “علينا ان ندمر كل ما نستطيع تدميره وان نمسح المنطقة مع الارض”.

قال ريغان بلهجة غاضبة لبيغن في اتصال هاتفي “انكم تتسبون بهولوكوست في بيروت” فرد عليه بيغن بغضب ولكن بهدوء “سيدي الرئيس، لا تملي عليّ الدروس حول الهولوكوست فانا وشعبي نعرف جيداً ماذا يعني الهولوكوست”

يتابع بيرغمان ان الغزو “الاسرائيلي” الشامل للبنان وحصار بيروت تحول الى مستنقع لـ”اسرائيل”، واحتلالاً لجنوب لبنان استمر بعدها على الاقل ثمانية عشر عاماً. وقف العالم باجمعه ضد “اسرائيل” ومن ضمنه الرئيس الاميركي رونالد ريغن الذي كانت تربطه ببيغن علاقات جيدة، فقد قال ريغان بلهجة غاضبة لبيغن في اتصال هاتفي “انكم تتسبون بهولوكوست في بيروت” فرد عليه بيغن بغضب ولكن بهدوء “سيدي الرئيس، لا تملي عليّ الدروس حول الهولوكوست فانا وشعبي نعرف جيداً ماذا يعني الهولوكوست”.

وقد حاول “الموساد” تخفيف حدة المشهد الدولي عبر تسريبه لصحيفة “أوبزرفر” البريطانية وثائق تزعم ان مخازن الاسلحة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية كانت تكفي لمئة الف رجل ما يوحي بان هذه المخازن كانت معدة لتكون احتياط تسليحي طارىء للاتحاد السوفياتي في الشرق الاوسط، كما زعمت تلك التسريبات ان الاتحاد السوفياتي ينوي ارسال جنود كوبيين للقتال الى جانب الفلسطينيين في مخططات لغزو منطقة الجليل الاعلى وتدمير المستوطنات الاسرائيلية فيها واقامة دولة مستقلة هناك، ويصف بيرغمان تلك الروايات بانها كانت تفتقد لاي ذرة من الصحة وبالتالي فانها لم تقلب الرأي العام العالمي لمصلحة “اسرائيل”.

إقرأ على موقع 180  هكذا إغتال "الموساد" وديع حداد بمعجون أسنان في بغداد (36)

ويقول بيرغمان ان الحد الكامل للخداع الذي مارسه شارون ضد الحكومة والرأي العام “الاسرائيليين” بدأ يتكشف تباعاً، ولكن ما أدى إلى تأليب الشارع “الاسرائيلي” ضده كان الارتفاع المضطرد في عدد الجنود “الاسرائيليين” القتلى وتقلب الاهداف الموضوعة للعملية العسكرية والروايات التي يرويها الجنود العائدون من لبنان عن الدمار والمعاناة هناك فبدأت تظاهرات الاحتجاج المعارضة للعملية في شوارع تل ابيب. ورأى رافاييل ايتان، رئيس الاركان ان معظم تحركات “الجيش الاسرائيلي” في لبنان كانت تتم من دون موافقة الحكومة “الاسرائيلية” المصغرة. لذلك بدأ يغيب بصورة متعمدة عن الاجتماعات، متذرعاً انه مع جنوده في الميدان تاركاً لشارون مهمة اخفاء المعلومات والتضليل، وكان الاخير يتجاهل بكل بساطة كل معارضة ويضغط للمضي قدماً وقد كتب شالوم هانوك وهو احد ابرز الموسيقيين “الاسرائيليين” عن شارون أغنية تقول في مطلعها “لا يتوقف على الأحمر ابداً”.

ويشكك بيرغمان بمدى معرفة بيغن بتفاصيل خطط شارون بالتحديد فيقول انه لم يكن من الواضح مدى معرفة بيغن بالخطط المعقدة لشارون الذي تقدم بشكوى قضائية ضد احد الصحافيين بسبب كتابته ان شارون كذب على بيغن واخفى عنه معلومات سرية لكن شارون خسر القضية ما يعني ان الصحافي كان محقاً.

في ما يتعلق بخطة التخلص من ياسر عرفات، لم تكن هناك اي وثائق صادرة عن الحكومة المصغرة او عن لقاءات شارون ـ بيغن تشير الى هذه الخطة “الإسرائيلية”، لذلك من غير الممكن القول تحديداً ما اذا كان بيغن وأعضاء حكومته يعرفون اي شيء عن “عملية السمكة المالحة” لتصفية عرفات.

في احدى المرات سمعوا عرفات شخصياً يتحدث عبر الهاتف، فارسلوا طائرتين مقاتلتين لالقاء القنابل على المبنى وبعد ان تم مسحه بالارض تبين ان عرفات كان قد غادر المبنى “قبل ثلاثين ثانية فقط”، بحسب دايان

ومهما كان بيغن يعرف من تفاصيل او لا يعرف، فانه لم يخفِ سراً بكشف رأيه الى العلن عن ضرورة التخلص من عرفات، ففي رسالة بعث بها الى الرئيس الاميركي رونالد ريغان في الثاني من اغسطس/اب كتب “أشعر كأنني ارسلت جيشا كاملا الى برلين لقتل هتلر في مخبأه” وفي خطاب له في الكنيست ايضاً قال في معرض وصف عرفات “ذلك الرجل الخسيس صاحب الوجه الممتلىء بالشعر وقاتل اطفالنا”.

يتابع الكاتب ان قوة المهمات الصعبة المكلفة بعملية “السمكة المالحة” والتي شكلها ايتان ومائير داغان، واصلت عملها خارج اوامر قيادة العمليات الحربية وكانت مؤلفة بصورة رئيسية من جنود “وحدة سيريات ميتكال” بقيادة المقدم اوزي دايان (ابن شقيق موشيه دايان وزير الدفاع الأسبق). وقد كانت مهمة هذه المجموعة معقدة للغاية بسبب حرب المدن الدائرة حينذاك. لم يكن بامكان المجموعة ارسال مفرزة من جنودها لاقتحام بيروت وقتل رجل واحد. كانت مهمتها، بحسب أوزي دايان، “تحديد موقع “السمكة المالحة” ووضعها في مدى رؤية قنابل القوات الجوية ولكن من دون ان تتسبب بالكثير من الاضرار الجانبية”.

على هذا الأساس، إستدعي الى بيروت في يونيو/حزيرن العقيد يوسي لانغوتسكي، احد الأباء المؤسسين للوحدة التكنولوجية في جهاز “امان” للتنصت على كل وسائل الاتصال التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وبفضل اعتراض المكالمات التي كانت تجري مقاطعة معلوماتها مع تقارير المراقبين السريين لوحدة “سريات ميتكال” وتقارير العملاء السريين لـ”الموساد”، توفرت لوحدة عملية “السمكة المالحة” معلومات عن المخابىء التي كان عرفات يرتادها في بيروت المحاصرة. ويقول دايان “مع ذلك كانت المهمة لا تزال معقدة، فقد كان علينا جمع المعلومات من مصادر مختلفة ودراستها بالتفصيل لمعرفة اي كهف او مبنى هو مخبأ عرفات الصحيح لإبرازه على الخريطة وتضييق الاحداثيات الى عشرة اصفار لارسالها الى القوة الجوية واعطاء الوقت الكافي لوضع خطة للطائرة التي ستلقي القنبلة”.

كانت الايام والليالي تمر ببطء وبصورة محبطة في مقر قيادة “السمكة المالحة”، فقد تمكن عرفات من النجاة مرة تلو الاخرى، وقد كان لانغوتسكي ودايان يسمعان ان مرافقي عرفات الشخصيين يحضرون الى مكان ما في وقت ما فيعطون على وجه السرعة الاحداثيات لسلاح الجو، وفي احدى المرات سمعوا عرفات شخصياً يتحدث عبر الهاتف، فارسلوا طائرتين مقاتلتين لالقاء القنابل على المبنى وبعد ان تم مسحه بالارض تبين ان عرفات كان قد غادر المبنى “قبل ثلاثين ثانية فقط”، بحسب دايان.

لقد فهم الزعيم الفلسطيني ان عمليات القصف المتكررة لاهداف واماكن كان دخلها او خرج منها للتو لم تكن مصادفة، فاخبر جماعته ان شارون يتصرف في بيروت كـ”الذئب الجريح” ويريد ان يقتله انتقاماً منه للطريقة التي تسير فيها الحرب، فبدأ يتخذ المزيد من التدابير الاحترازية في حركته، كأن يحدد اكثر من اجتماع في الوقت نفسه في اماكن مختلفة وان يوزع المعلومات بشأن هذه الاجتماعات على مساعديه للاشتباه بان يكون احدهم عميلا لـ”الموساد” وان يبقى في حركة دائمة دون ثبات في مكان واحد. ويقول احد ضباط وحدة “السمكة المالحة” موشيه يعالون “لم يعد عرفات يلتزم باي روتين في حركته، ولم يكن هناك اي نمطية في سلوكه، لا شيء يمكننا من التحضير لعملية برية للاغارة على مخبأ او منزل”.

يقول رونين بيرغمان ان الاحباط بدأ يتضاعف لدى فريق وحدة “السمكة المالحة” من صعوبة تنفيذ مهمته بعد استنفاد عدد لا يحصى من الافكار. وفي الثالث من يوليو/تموز، عبر رئيس تحرير مجلة يسارية “اسرائيلية” يدعى يوري افنيري خطوط التماس في بيروت لإجراء مقابلة مع عرفات (يرافقه مراسل يدعى ساريت ييشاي ومصور يدعى انات سارغوستي) وذلك في إتجاه قلب مدينة بيروت (الغربية). لم تعجب هذه المبادرة وحدة “السمكة المالحة” ولكن تقرر الاستفادة من هذه الفرصة لملاحقة “الاسرائيليين” الثلاثة وجعلهم يقودون فريق من القتلة المحترفين مباشرة الى مكان وجود عرفات. وجرى نقاش بين اعضاء وحدة “السمكة المالحة” حول مدى صوابية تعريض حياة ثلاثة “اسرائيليين” للخطر او حتى التسبب بقتلهم، ولخص ممثل “الموساد” في الفريق نتيجة النقاش بالقول “لو كانت الظروف صحيحة من الناحية العملياتية فمن المنطقي ان نستنتج ان عرفات وهؤلاء اليهود الثلاثة لما كانوا قد بقيوا احياء”. ولكن عرفات كان يشتبه بان “الموساد” كان يتعقب يوري افنيري وفريقه فقام جهاز امنه ومرافقيه بتنفيذ تدابير خداعية مضادة ادت الى جعل وحدة “السمكة المالحة” عاجزة عن إقتفاء آثار “الإسرائيليين” الثلاثة في ازقة وزواريب بيروت.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  قراءة باردة في خطاب نصرالله الفرنسي!