الأمر الذي يخرج عن الجدال والنقاش، أن العادات والتقاليد بما هي تعبيرات ثقافية سلوكية وعملية، هي في الوقت نفسه رفيقة الزمن الممتد الذي يعطيها صلابة واستمرارية في مواجهة المتغيرات والمتبدلات، ومع أن كثيرا من تقاليد الشعوب تتكيف مع الطارئات من الأحداث والثقافات الوافدة أو تذوب وتتلاشى بحسب قاعدة البقاء للأقوى، فإن بعضها يتحول مع تعاقب الأزمان إلى ممارسات واعتقادات مقطوعة عن الجذور او مجردة من المعنى او حتى فاقدة للتفسير، والقسم الثاني ينطبق على أكثر التقاليد والثقافات الموروثة لدى الشعوب كافة ومن ضمنها الحالة الفينيقية ـ اللبنانية، ومن ضمن ما يتداوله اللبنانيون (والسوريون والفلسطينيون) من ثقافة فينيقية موروثة هذه النماذج المختارة:
أولاً؛ مزروعات على بعل:
من الشائع في الأرياف والقرى اللبنانية أن يقال “هذا الزرع على بعل”، ويُستخدم هذا التعبير في مفاصل الحياة اليومية في المنازل وأسواق الخضار حيث يقال على سبيل المثال “هذه بندورة ـ طماطم ـ بعلية” وتمتد القائمة إلى ما لا يمكن حصرها.
والشائع لدى غالبية اللبنانيين أن المزروعات البعلية هي التي تنمو وتنضج من دون ري وماء، وفي حقيقة الأمر أن جذور هذا التعبير تعود إلى الثقافة الفينيقية الموغلة في وعي اللبنانيين، فالفينيقيون كانوا “يؤمنون” بأن “إله المطرـ أي بعل” (الإله لا يعني بالضرورة مفهوم الألوهة كما في المفاهيم الحالية بل قد يعني السيد أو الأمير) هو الذي يروي مزورعاتهم فتنمو من دون سقاية وري، فبعل “إله المطر” أو “سيد المطر” أو “أمير المطر” يتكفل بنمو تلك المزورعات وإنضاجها.
في “الموسوعة العربية” الصادرة في دمشق، “ترد في النصوص الأدبية الأوغاريتية أكثر من خمسمئة إشارة إلى بعل، وقد انتشرت عبادته في مدن الساحل السوري وأنحاء الهلال الخصيب التي تعتمد في الريّ على مطر السماء منذ الألف الثالث ق.م.”، وفي الجزء الثاني من “موسوعة تاريخ الأديان”، لمجموعة من الباحثين (أشرف على تعريبها وتحريرها أستاذ الحضارات القديمة فراس السواح)، فإن إبن إيل “هو بعل إله الجبال والمطر والعواصف”.
وفي “المدن الفينيقية” لمحمد أبو المحاسن عصفور “يأتي على رأس الآلهة الكنعانية الإله إيل، وقد وُلد لإيل ولد هو بعل وهو رب الجبال والمطر والعواصف ويُعد أيضا إله الجو”. وفي كتابه “معالم حضارات الشرق القديم” أن “بعل هو إله المطر والمحاصيل”، كما “أننا نجد في الأوغاريتية أن بعل يوصف براكب الغيوم”، على ما جاء في “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين” للمؤرخ فيليب حتي.
ويرى أستاذ تاريخ الأديان والحضارات خزعل الماجدي في “المعتقدات الكنعانية” أن إسم بعل “مأخوذ من كلمة بل التي كان يُلقّب بها الإله البابلي مردوخ وتعني السيد أو الزوج، وأصبح بعل مناظرا للإله مردوخ في صفاته، حيث أصبح إله طقس كنعاني، وهو يذكرنا بجذر مردوخ الطقسي وهو الإله أنليل السومري إله الهواء والطقس”. وضمن ثنائية “بعل ـ المطر” يتحدث المؤرخ انطوان القسيس (قناة “الميادين” في 15 تموز/يوليو 2017) عن أن “البعل هو إله المطر والصواعق والعواصف والبرق والرعد ونحن نعرف أن المطر يحيي الأرض والأرض البعل هي المرويّة بالمطر وغير المرويّة بالإنسان فهذه موروث قديم”.
وفي “مغامرة العقل الأولى” لفراس السواح أن “معظم الأراضي هي ملك لبعل يسقيها كيف يشاء وعندما يشاء، ولا تزال الكلمة مستعملةً في سوريا حتى الآن عندما يُقال أرض بعل، بمعنى أنها الأرض التي تُسقى بمياه الأمطار”.
يتوسع أنيس فريحة في “ملاحم وأساطير من رأس شمرا” حول مفهوم بعل ودوره:
“من ألقاب بعل الجميلة راكب السحُب والغيوم، صوته الرعد وبهاؤه البرق، عندما يتكلم تزلزل الأرض زلزالها، وإذا احتجب انحبس المطر وجفُت السواقي ويبُس العشب وذبُل الزهر، واختفى الحب، الحب بين الناس، وانقطع النسل والتناسل، بعل إله المطر والعاصفة وشفيع الزراعة ومتعهد الغلال”.
في “ديانات الشرق الأوسط” لرينيه لابات وآخرين هذه الأبيات الشعرية عن بعل مأخوذة من ألواح مدينة أوغاريت:
سيحدد بعل وقت هطول المطر
وقت تدفق السوائل
وسيجعل الغيوم تُدوِي.
ثانياً؛ الموت وحرارة الصيف:
يربط اللبنانيون في العادة بين حرارة فصل الصيف والموت، فيقولون “الطقس موت”، أي أن ارتفاع درجات الحرارة لا تُحتمل، وعلى الأرجح ان هذه المزواجة بين المفردتين عائدة إلى عقيدة فينيقية تتحدث عن الصراع بين “الإله بعل” و”الإله موت” ـ موت بالمعنى نفسه في العربية ـ فينتصر “موت” على “بعل” ويحل فصل الصيف بجفافه وارتفاع درجات حرارته.
في “المدن الفينيقية” يقول محمد عصفور “تدور الأسطورة حول صراع بعل ضد موت الذي يمثل حرارة الصيف، ويبدأ الصراع ببعل قويا، ويرسل الصواعق والمطر مدرارا، ولكن سلطان بعل لا يصمد كثيرا أمام قوة موت، ويضطر بعل إلى أن يخلي المجال لموت الذي يأمر بأن تسود الحرارة والدفء، وهكذا يموت بعل وينزل إلى باطن الأرض حيث يغيب المطر والخصب ويسود الصيف الموازي للموت بحرارته ولهيبه”.
وضمن هذا الإتجاه تجري نصوص دونالد هاردن في “موسوعة تاريخ الأديان” فقد “كشفت التنقيبات في أوغاريت وبيبلوس ـ مدينة جبيل اللبنانية ـ ومواقع فلسطينية عديدة أشياء كثيرة عن الديانة الكنعانية القديمة، غير أن أهم الشواهد هي التي تأتت مما حققه كلود شيفر في أوغاريت من اكتشاف رائع لسلسلة من النصوص العائدة إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتصف الألواح مدى خصوبة بعل، فبعد صراع مع موت حر الصيف ينزل إلى رحم الأرض، وتمضي ـ الآلهة ـ عناة ـ أناة ـ ضاربة في كل اتجاه بحثا عنه”.
هذا الصراع بين “بعل” و”موت”، يدرجه المؤرخون والباحثون في الحضارات القديمة في سياق دورة الحياة الزراعية القائمة على الخصب والجفاف، وكذلك في إطار الصراع بين الخير المتمثل في الخصب والشر المتمثل في الجفاف، فالأول هو الحياة برمزية “بعل” ومائه ومطره وخصبه والثاني هو “موت” بدلالة جفافه وقحطه وحرارته التي لا تُطاق.
وعلى ما يرى ف. دياكوف وس. كوفالييف في “الحضارات القديمة” أن المعتقدات الفينيقية ـ الكنعانية تقوم في المقام الأول على “العبادات الزراعية الموقوفة على آلهة الخير، المطر وخصب التربة والمواسم والحصاد، ويُعطى هذا إلى عليون ـ بعل ـ موزع المطر الذي يهطل فجأة قبل البذار وينتصر على إله الجفاف موت”، والتأويل نفسه يقترب منه أنيس فريحة في “ملاحم وأساطير من رأس شمرا” فقد “كان صراع البعل ضد يم إله الفوضى صراعا كونيا غايته ترسيخ النظام، بينما كان صراعه ضد موت صراعا فصليا الغاية منه رتابة الفصول وتنظيم المطر، وكل هذا لخير الإنسان، وإن دلت هذه الملحمة على شيء، فعلى أنها تعبير صادق عن إيمان قدماء الفينيقيين بأن عوامل الخير أقوى من عوامل الشر والفساد المساوية للإله موت”.
وهذه الخلاصة يتطرق إليها المفكر انطون سعادة مؤسس الحزب “السوري القومي الإجتماعي” في “الصراع الفكري في الأدب السوري” إذ يقول “قتل معط ـ موت ـ عليين ـ بعل ـ فصار الناس يشكون إلى الآلهة، فقد جفت الأرض وأمست السباع تطوف المدن، فتنهض الآلهة عناة لمناقشة معط على ما جنت يداه، فينكر فعلته ويعد بتحويل الصحارى إلى مروج خضراء ولكنه يخفق، حينئذ ينفد صبر عناة فتأخذ منجلا فتقتله، وبعد انتقام اناة يُبعث عليين ـ بعل ـ ويعود المطر إلى السقوط”.
ولفراس السواح في “لغز عشتار” أن معارك “بعل” الأولى “كانت ضد المياه الأولى المتمثلة بالإله يم ـ النهر أو البحرـ الذي صرعه دون صعوبة، وبعده ينتصر على التنين ذي الرؤوس السبعة، ثم يجنح إلى الراحة، غير أن هذا الوضع الجديد لبعل لا يدوم طويلا، لأن إله العالم الأسفل موت ينبري له، وهنا لا يبدأ بعل استعداده للمعركة كما فعل عندما تصدى له الإله يم، بل نراه ينزل من عليائه مختارا ويستسلم طائعا لإله الموت”.
وليس بعيدا عن هذا المعنى، كان فيليب حتي في “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين” قد تحدث عن أهمية التنقيبات المكتشفة في أوغاريت والتي أعادت “جانبا هاما من الأدب الكنعاني الذي فُقد لمدة طويلة، وتدور إحدى القصائد حول النزاع السنوي بين إله النبات عليان بعل وخصمه موت، وينتصر موت على بعل في أول الأمر وهذا طبيعي في بلاد يضع فيها جفاف الصيف حدا لحياة النبات، والصفات البارزة في ديانة الخصب السامية هي الحزن على موت إله النبات وإجراء طقوس لتمكينه من الفوز على خصمه إله الموت والعالم السفلي”.
وإذا كانت المجابهة السنوية بين “بعل” و”موت” كما في “ديانات الشرق الأوسط” لرينيه لابات “تدل على تناوب الفصول، ونزول بعل في شدق موت الجائع يدل على اسطورة سقوط الأمطار التي تسقي التربة الجافة بفعل جفاف الصيف في الشرق الشبيه بفصل الموت” فإن “موت” عند فيلون الجبيلي (القرن الأول للميلاد) يحمل معنى الموت الشائع مثلما يورد يوسف الحوراني في “نظرية التكوين الفينيقية” وهو أيضا بحسب “الحضارة الفينيقية” لمحمد الخطيب “الذي يسمى حرارة الصيف”.
في انشودة لـ”بعل” موجهة إلى “عناة ” حين كانت تقاتل “موت” هذه الأبيات في “اناشيد بعل” لحسني حداد وسليم مجاعص:
اقيمي في الأرض سلاما
وابذري في التراب محبة
واسكبي سلاما في الأرض
وعسلا في الحقول.
ثالثاً؛ لبن أمه والشاكرية:
من أطباق الطعام المعروفة في لبنان طبق “لبن أمه” أو “الشاكرية” وهو الإسم الشائع لهذا الطبق في سوريا، والصنفان الأساسيان في هذا الطبق هما اللحم واللبن، وعلى ما يظهر في كتب التاريخ والبحوث الحضارية أن هذا الطبق كان معروفا عند الفينيقيين، إذ كانوا يطبخونه من لبن الشاة ولحم الجدي الصغير.
يقول ج. كونتينو في “الحضارة الفينيقية” الذي راجعه عميد الأدب العربي طه حسين، إن “في قصائد رأس شمرا محصول كبير يمكن استخراجه، ففيها وصف العادات والعقائد الكنعانية، وأهمية هذا الوصف أنه يمدنا لأول مرة في التاريخ بأخبار ثابتة عن الكنعانيين، وكذلك تلقي نصوص رأس شمرا ضوءا أنصع على بعض أوامر الكتاب المقدس ـ التوراة ـ مثال ذلك تحريم طبخ العنز الصغير بلبن أمه، وهو تحريم ظلت علته غير مفهومة مع أن شرحه بسيط، وهو أنه رد فعل ـ يهودية ـ ضد عادة كنعانية صيغتها أطبخ الحمل باللبن”.
ويعيد خزعل الماجدي في “المعتقدات الكنعانية” هذا الطبق إلى طقوس “السابوع الإلهي” حيث “نهاية السنوات السبع العجاف وبداية السنوات السبع السمان، ويتكون نص هذه الأسطورة من 12 مشهدا ـ منها ـ طقس طبخ الجدي في لبن أمه، وهو طقس كنعاني قديم تذكره التوراة معترضة عليه، ويتم ذلك في حقول عشيرة الفردوسية زوجة إيل ومعها إبنتها عناة”.
وبإعتباره طبقا ـ طقسيا يُعِده “الوثنيون” الكنعانيون، فقد نهت التوراة عن تحضيره، ففي “سفر الخروج” تحريمان واضحان “احملوا أوائل بواكير أرضكم إلى بيت الرب إلهكم، لا تطبخوا الجدي بلبن أمه” وأيضا “لا تقدموا لي ذبيحة مع خبز مختمر ولا تحتفظوا بشيء من ذبيحة عيد الفصح إلى الغد، جيئوا ببواكير غلات أرضكم إلى بيت الرب إلهكم، لا تطبخوا الجدي بلبن أمه”. وفي “سفر التثنية” تحريم ثالث “لا تأكلوا حيوانا فاطسا تعطونه للغريب الذي في مدنكم فيأكله أو تبيعونه لأنكم شعب مقدس، ولا تطبخوا جديا بلبن أمه”.
وإذ لا تقدم النصوص التوراتية مبررا لتحريم هذا الطبق، فالعديد من الدارسين للحضارة الفينيقية ـ الكنعانية يردون التحريم إلى النزعة التوراتية العدائية للكنعانيين، في حين أن التلمود يرده إلى ذريعة تشريعية تقول “لئلا تجتمع روحان في طبخة واحدة” كما في “عوائد العرب” للخوري بولس البولسي.
رابعاً؛ بيبي الطفل:
يُطلق اللبنانيون (والشاميون عموما) على الطفل الرضيع لقبا دلعيا هو “بيبي” وغالبا ما يذهب الإعتقاد بأن هذا اللقب مرجعه إلى إحدى اللغتين الفرنسية bébé أو الإنكليزية baby، إلا أن الفيلسوف الدمشقي دامسكيوس (450م) في كتابه “حياة إيزيدور أو التاريخ الفلسفي” الذي نقله إلى العربية عادل الديري، يقدم هذه الرواية:
“رُزق هيرمياس ـ فيلسوف ـ من أيديسيا بطفل، وعندما كانت تلاعبه أيديسيا بشكل طبيعي في عمر الأشهر السبعة، كانت تناديه بابيون أو حتى أيها الطفل الصغير، ونقل هيرمياس الكثير من القصص العجيبة عن إبنه، فقال إنه لم يكن قادرا على تحمل الوجود الجسدي المادي، وربما هذا ما جعله يغادر الحياة في عمر السابعة، السوريون وخصوصا أولئك الذين يسكنون في دمشق يدعون الأطفال وحتى الفتيان الأكبرعمرا بلفظة ببيّا على إسم بابيا وهي آلهة يعبدونها”.
خامساً؛ شقائق النعمان:
يحفظ اللبنانيون والسوريون قصة أدونيس وعشتروت عن ظهر قلب، فأدونيس كما في الأسطورة المعروفة قتله خنزير في الغابة، و”كان لقبه الفينيقي نعمان”، كما يقول المؤرخ اللبناني فيليب حتي في “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين” ومفردة (Anemone) الإنكليزية أتت بطريق اليونانية بينما كلمة نعمان العربية أتت بطريق السريانية”.
هذا الرأي حول “شقائق النعمان” سيأخذ به المؤرخ السوري أحمد داوود في “تاريخ سوريا الحضاري” حين يستشهد بقصيدة للشاعر الروماني أوفيد (القرن الأول للميلاد) عن عشتروت (Venus باللاتينية) التي “صبّت على دم أدونيس رحيق زهرة عطر، ولم تمض ساعة حتى انبثقت من بين الدماء زهرة بلون الدم قصيرة العمر واهنة الساق هي زهرة شقائق النعمان”، والرواية نفسها تقريبا في “تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية” لجان مازيل “أما أدونيس فتقول الأسطورة إنه ذهب إلى الصيد وأصيب بجرح قاتل عندما هاجمه خنزير بري، فظل دمه ينزف ثم تسرب في الأزهار، وهكذا نبتت شقائق النعمان التي تتفتح بكثرة خلال الربيع في الريف اللبناني”.
ولا يبتعد فراس السواح في “مغامرة العقل الأولى” عن الآراء الواردة آنفا بقوله “إلى يومنا هذا نطلق على بعض الزهور الربيعية الحمراء إسم شقائق النعمان أي جراح ادونيس، وذلك بقية من الإعتقادات القديمة التي كانت ترى على هذه الأزهار دم الإله القتيل الذي افترسه الخنزير البري”.
أخيراً؛ قصيدة إلى عشتروت منشورة في مجلة “الأديب” اللبنانية في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1948:
لعشتروت الزورق الأخضر/ يسبح في النور ولا يعثر
يضرب صدر الغيم مجذافه/ وخلفه الأجواء والأبحر.
للحديث بقية..