العنصريّة عورة قبيحة في تاريخنا.. وحاضرنا!

العنصريّة من أعتى وأخطر الأدوات السياسية التي تستخدمها فئة معينة إما دفاعاً عن هويّتها (عرقيّة، إثنيّة، دينيّة إلخ..) أو إعتقاداً منها أنها أكثر رقياً من غيرها من الشعوب، بناء على موروثات أو تقاليد إلخ.. وتُستخدم العنصريّة أيضاً ضدّ مجموعات ضعيفة أو مُهمّشة، لتحميلها مسؤوليّة المشاكل التي يواجهها مجتمع ما، كما هو الحال مع المهاجرين في أوروبّا وأميركا، وكما نشهد حالياً من إرتفاع نبرة الخطاب العنصري المقيت مع كتلة النازحين السوريّين في لبنان وتركيّا والأردن.

تتفشّى العنصريّة في الكثير من المجتمعات التي فيها خليط هائل من أعراق وإثنيّات وأديان مختلفة، ومن بين مظاهرها الإصرار على أصل معيّن وإنكار الأصول الأخرى. وهي دائماً بحاجة إلى التلاعب بالتاريخ وطمس الحقائق لكي تُصبح مقبولة ولها جمهورها. لنأخذ مثل النقاش الحالي حول بشرة الملكة كليوباترا (وهذا كان موضوع مقالتي السابقة)، أهي بيضاء أم سمراء البشرة؟

نقاشٌ ليس بجديد بل له إمتدادات عميقة في تاريخ البشرية. وفي النموذج المصري (كليوباترا)، يتجاهل هذا النقاش تاريخ مصر الذي شهد اختلاط شعوب كثيرة (الإفريقي والأشوري والبابلي والفارسي والإغريقي والمقدوني والروماني والعربي والتركي والمغولي و..) على مرّ القرون، سواء بالغزو أو البحث عن ملجأ (من دون الدخول في تعقيدات أنّ كل شعب من هذه الشعوب هو أيضاً خليط).

وفي ما يخصّ التاريخ العربي والإسلامي، فإن العنصريّة هي من العورات القبيحة التي عجز علماء الدين والسياسة عن وضع حدّ لها. ومن أهمّ الأمثلة على هذه العنصريّة المقيتة ما نجده في قصيدة للمتنبّي (ت. 965) يهجو فيها والي مصر كافور الإخشيدي (حكم 946-968)، ونقتبس منها الأبيات التالية:

أكُلما اغْتَالَ عَبدُ السُوءِ سيدَهُ أَ… و خانَه فَلَهُ في مصرَ تَمهيد

صار الخَصِي إِمام الآبِقين بِها… فالحُر مستعبَد والعَبدُ مَعبُودُ

نامَت نواطِيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها… فقد بَشِمْنَ وما تَفْنى العناقيدُ

العَبد ليسَ لِحُرٍّ صالحٍ بأخٍ… لَو أنهُ في ثيابِ الحرِّ مولود

لا تشتَرِ العَبد إلا والعَصَا معه… إِن العَبِيدَ لأنجاسٌ مَناكيد

ما كُنتُ أَحسَبُني أَحيا إلى زَمَن… ٍيُسيء بي فيهِ عَبد وَهْوَ مَحمودُ

وَلا تَوهمتُ أَن الناس قَدْ فُقِدُوا… وأًن مِثْلَ أَبي البيضاءِ مَوجودُ

وأَنَّ ذَا الأَسْوَدَ المَثْقوبَ مشْفَرُهُ… تطِيعُهُ ذي العَضارِيطُ الرعادِيد

المتنبّي هو من أعظم شعراء العرب، لكن الأبيات أعلاه تشير إلى جانب قبيح من شخصيّته، وبيته “لا تشتَرِ العَبد…” أصبح كآيات القرآن، يردّده الكثير من العرب والمسلمين كلّما غضبوا من شخص أسود.

لكن مشكلة العنصريّة في التاريخ العربي والإسلامي لا تتوقّف عند المتنبّي. وقد تطرّق إليها بعض العلماء كالجاحظ (ت. 868) مثلاً في رسالته “كتاب فخر السودان على البيضان”، وهي ردّ على العنصريّة تجاه السود التي كانت متفشّية في وقته. والمعروف أنّ الجاحظ كانت بشرته سوداء لأنّه إفريقي من جهة أمّه.

علينا أن نعترف أن المجتمعات والشعوب العربيّة والإسلاميّة هي في الواقع مزيج من البيض والصفر والحمر والسود وأعراق وإثنيّات لا تخطر دائماً على بالنا (بغض النظر عن نمطيّة هذه التعابير)، وأنّ التفاخر بـ”نقاوة” العرق هي عنصريّة لا أساس تاريخياً لها

يدافع الجاحظ في رسالته عن ذوي البشرة السمراء، أكانوا من إفريقيا (السودان) أم من الهند (سنديّون)، ويتفاخر بخدمتهم للإسلام والتاريخ العربي. فهو من جهة يسمّي لنا بعض أهمّ أسمائهم ويعدّد مناقبهم وأشعارهم. ومن جهة أخرى، يتغنّى بأنّ الكثير من الأشياء ميزتها عن غيرها أنّ لونها أسود (كأفخر أنواع التمر والآبنوس وحدقة العين و..). وفي مقطع مهمّ يقول الجاحظ إنّ لون البشرة ليس من خلق الله بل هو نتيجة المناخ الذي يعيش فيه الناس:

“ونحن نقول إنّ الله تعالى لم يجعلنا سوداً تشويهاً بخلقنا، ولكن البلد فعل ذلك بنا. والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سوداً كبني سليم بن منصور وكلُّ من نزل الحَّرة من غير بني سليم كلّهم سود. وإنّهم ليتّخذون المماليك للرعي والسقاء والمهنة والخدمة من الأشبانيِّين ومن الروم نسائهم، فما يتوالدون ثلاثة أبطن حتى تنقلهم الحرّة إلى ألوان بني سليم. ولقد بلغ من أمر تلك الحَّرة أن ظباءها ونعمها وهوامها وذبابها وثعالبها وشاءها وحميرها وخيلها وطيرها كلّها سودٌ. والسواد والبياض إنّما من قبل خلقة البلدة، وما طبع الله عليه الماء والتربة، ومن قبل قرب الشمس وبعدها، وشدّة حرّها ولينها (…)”.

إذاً، في رأي الجاحظ، البيئة وطبيعة الأمكنة التي نعيش فيها تؤثّر في لون بشرتنا. لكن الملفت للإنتباه في ما يقوله هو أنّه يعتبر السواد “تشويهاً” للخلق سببه الطبيعة. وهناك جملة أخرى في المقطع أعلاه تثير الفضول لعلاقتها المباشرة بموضوع تداخل الأعراق في مجتمعاتنا منذ أزمان قديمة، حيث يشير الجاحظ إلى الإشبان (أي مسيحيّين من شبه الجزيرة الإيبيريّة والتي تُعرف في يومنا بإسبانيا) الذين أوتي بهم كعبيد إلى بعض البلاد العربيّة والإسلاميّة فاستوطنوها وتناسلوا مع سكّانها (وتكرّر هذا الأمر مع مجموعات كبيرة من البلقان والقوقاز ووسط آسيا حين كان الرقّ غير محصور بالسود). إذاً علينا أن نعترف أن المجتمعات والشعوب العربيّة والإسلاميّة هي في الواقع مزيج من البيض والصفر والحمر والسود وأعراق وإثنيّات لا تخطر دائماً على بالنا (بغض النظر عن نمطيّة هذه التعابير)، وأنّ التفاخر بـ”نقاوة” العرق هي عنصريّة لا أساس تاريخياً لها (أجرى الكثيرون من اللبنانيين والعرب فحص الـDNA وأتت النتائج لتثبت أن هناك من الأصول التي تبدأ من الصين والهند مروراً بأثيوبيا وصولاً إلى أقاصي الأرض).

إقرأ على موقع 180  في التّراجيديا السّياسيّة "العلويّة" الكبرى (2)

ويردّد الجاحظ أشياء يعتبرها من فضائل العرق الأسود، بينما نعتبرها في يومنا هذا من الصور النمطيّة (stereotypes) الكريهة. مثلاً، أنّ الشعوب السوداء “هي أطبع الخلق على الرقص الموقَّع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديبٍ ولا تعليم، وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم”.

ويلفت إنتباهنا أيضاً مقطع قصير يقول فيه الجاحظ:

“والقبط جنسٌ من السودان، وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد فولد له منهم نبيٌّ عظيم الشأن، وهو أبو العرب إسماعيل عليه السلام”.

ما يعنيه الجاحظ هنا هو أنّ النبي إبراهيم رُزِق بأوّل أبنائه إسماعيل من هاجر، وعبارة “القبط” تشير إلى أهل مصر الأصليّين الذين هم برأيه أفارقة، وهو يريد بذلك أن يقول إنّ العرب لها أصل إفريقي أسود.

وهناك أيضاً ابن الجوزي (ت. 1201) الذي ألّف كتاب “تنوير الغَبَش في فضل السودان والحَبَش”، والذي يسرق معظم مادّته من كتاب الجاحظ. المهمّ في كتاب ابن الجوزي هو مقدّمته التي يقول فيها ما يلي:

“الحمد لله الذي اختار من جميع المخلوقات الإنسان، ثمّ اصطفى منه أهل التقى والإيمان، ثمّ جعل محلّ نظره القلوب لا الأبدان. هو ينظر إلى صفاء الأسرار، لا إلى نقاء الألوان. فاوتَ بين الآدميّين، فمنهم ملك ومنهم شيطان. يُخرج الحيّ من الميّت، فالخليل من آزر ذي الكفران. ويخرج الميّت من الحيّ، فمن نوح كنعان. جرى قدره، فكفّر أبو طالب وأسلم عثمان، وضلّ أبو لهب وأذن لبلال في الأذان. يُفني ويُبقي، ويُسعد ويُشقي. كلّ يوم هو في شان.. أمّا بعد، فإنّي رأيت جماعة من أخيار الحبشان تنكسر قلوبهم لأجل اسوداد الألوان، فأعلمتهم contrary in arabic أنّ الاعتبار بالإحسان لا بالصور الحسان. ووضعت لهم هذا الكتاب في ذكر فضل خلق كثير من الحبش والسودان، وقد قسمته ثمانية وعشرين باباً، والله المستعان”.

العنصريّة هي نتاج للعقائد والقيم والنمطيّات والمعايير والمشاكل التي يريد المجتمع (أو البعض فيه) أن يتعلّق بها أو يهرب منها، والتي تتطلّب التلاعب بالتاريخ واختيار ما هو ملائم منه. العنصريّة هي تأثير هذه الأمور، مجتمعةً أم متفرّقةً، علينا بحيث نقف أمام المرآة فنتصوّر غير ما نراه وننظر إلى الآخرين كأنّهم أضّداد لنا

تقول هذه المقدّمة عن سبب تأليف الكتاب أنّ بعض الأفارقة السود (في بغداد) اشتكوا لابن الجوزي من قباحة لون بشرتهم، وهو إن دلّ على شيء فعلى حجم العنصريّة التي واجهوها والتي أقنعتهم أنّ لون بشرتهم بشعٌ وجعلهم أدنى من غيرهم من المسلمين. والملفت للنظر أنّ ابن الجوزي كان مقتنعاً بذلك حين قال “فأعلمتهم أنّ الاعتبار بالإحسان لا بالصور الحسان”، وكأنّه يؤكّد أنّ السواد هو عورة. وحتّى كلامه عن أنّ الله ينظر إلى قلوب البشر لا إلى لون بشرتهم فيه نوع من العنصريّة. وهو لا يتطرّق بتاتاً على أنّ واجب المسلم أن ينظر إلى القلب لا إلى اللون.

لكن المثير للإنتباه في حالتي الجاحظ وابن الجوزي أنّهما لم يتكلّما إطلاقاً عن حال السود في وقتهم، بل اكتفوا بتعداد بعض الأسماء من الماضي (أكثرهم صحابة أو من ما قبل الإسلام). إذاً، ما كتبوه لا يعكس جدّيّة في التعاطي مع موضوع من هذا النوع ولا يفيدنا كثيراً في يومنا هذا إلاّ من باب المجاملات الفارغة.

في الخلاصة، العنصريّة هي نتاج للعقائد والقيم والنمطيّات والمعايير والمشاكل التي يريد المجتمع (أو البعض فيه) أن يتعلّق بها أو يهرب منها، والتي تتطلّب التلاعب بالتاريخ واختيار ما هو ملائم منه. العنصريّة هي تأثير هذه الأمور، مجتمعةً أم متفرّقةً، علينا بحيث نقف أمام المرآة فنتصوّر غير ما نراه وننظر إلى الآخرين كأنّهم أضّداد لنا.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  يومُ موتك يا ريان أطول من دهر.. ماذا بعد؟