هذه المرة، ليست الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية مجرد نزهة ربيعية سهلة، ولا نتائجها مضمونة لأحد، فيما يدور الكثير من الشك حول مصير من حكم البلاد منذ عام 2003 إلى اليوم، خاصة أن المواجهة الإنتخابية حقيقية وأرقام استطلاعات الرأي لا تنذر بفوزٍ سهلٍ لأحد لا سيما بعد انسحاب زعيم حزب “البلد” المرشح مُحرّم إنجه.
يُجاهد الرئيس التركي للبقاء في أعلى هرم السلطة. لا يريد الرجل سوى الفوز مهما كلف الأمر، فخروجه من الحكم يعني عدم تحقيق رؤيته لبلاده التي عمل عليها طوال عقدين من الزمن. أزاح إردوغان كل من سعى لتقويض مشروعه أو نفوذه، من مدنيين وعسكريين ورجال دين، ولن تثنيه بعض الأحزاب والشخصيات “الهامشية” المصممة على اسقاطه من تحقيق مبتغاه، وذلك عبر الفوز مُجدّداً في الانتخابات المزمع إجراؤها يوم الأحد المقبل.
ولأن الغاية تُبرّر الوسيلة في عالم الحُكم والسياسة، فكل أدوات الحكم مباحة في المنازلة الإنتخابية، حتى وإن كانت غير عادلة بين إردوغان وأخصامه. يملك رئيس جمهورية تركيا السلطة، الدولة وخزينتها، فيما لا يملك غيره من المرشحين سوى حماستهم المنبرية وبرامجهم الانتخابية وجمهورهم المتحرك.
“الرشاوى” الانتخابية ليست إلا دليلاً على خوف إردوغان وحزب العدالة والتنمية من الأصوات الناقمة على الوضع الاقتصادي المتراجع من جهة، كما الحاجة إلى أصوات بأي ثمن، حتى ولو اضطر الأمر إلى “شرائها” عبر خدمات ومبالغ سخية من جهة أخرى
ويستخدم إردوغان خزينة الدولة في الانتخابات بشكل فاضح، فنراه يُقدّم “مَكرُمات” رئاسية لغايات انتخابية على نسق المَكرُمات المالية التي يقدمها الملوك للرعايا. ففي بداية الشهر الحالي، أعلن رئيس جمهورية تركيا عن زيادة 40 بالمئة على مرتبات حوالى 700 ألف موظف في القطاع العام، كما رفع الحد الأدنى للأجور إلى حوالى 15 ألف ليرة تركية (768 دولاراً أميركياً). هذه الزيادات الكبيرة لهذا العدد الضخم من الموظفين، لن تكون إلا في صالح إردوغان وحزبه، وذلك لمعرفة موظفي القطاع العام أن مصالحهم المادية الخاصة باتت ترتبط بوجود إردوغان في الحكم واستمراره!
لم تكن هذه “الرشوة الإردوغانية” الانتخابية يتيمة في هذا الشهر، إنما تعدى الأمر ذلك ليشمل قطاعات إضافية في المجتمع لديها تأثيرها في الانتخابات. من بين هؤلاء، أساتذة المدارس الذين حصل حوالى 45 ألفاً منهم على تثبيت وتعيين في الوظيفة، وأغلبيتهم في المناطق المتضررة من زلزال شباط/فبراير الماضي، على الرغم من انتظار معظمهم سنوات طويلة من دون تعيين أو تثبيت في الوظيفة العامة.
هذه “الرشاوى” لم تقتصر على القطاع العام، بل شملت “المَكرُمات “الإردوغانية” معظم أفراد المجتمع، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قرر الرئيس التركي إعطاء الأتراك الغاز الطبيعي المخصص للاستخدام المنزلي مجاناً لمدة شهر كامل، كما تخفيض فواتير استهلاك هذه المادة الضرورية لمدة عام، وذلك بحجة “ربط غاز البحر الأسود بالشبكة المحلية”. أما التاريخ الذي تنتهي فيه مجانية الغاز الطبيعي، فهو في 31 مايو/أيار، أي بعد ثلاثة أيام فقط من نهاية الجولة الثانية والأخيرة من الانتخابات الرئاسية!
“الرشاوى” الانتخابية هذه وغيرها، ليست إلا دليلاً على خوف إردوغان وحزب العدالة والتنمية من الأصوات الناقمة على الوضع الاقتصادي المتراجع من جهة، كما الحاجة إلى أصوات بأي ثمن، حتى ولو اضطر الأمر إلى “شرائها” عبر خدمات ومبالغ سخية من جهة أخرى. وبدل سلوك درب إصلاح الاقتصاد التركي بشكل بنيوي، راح إردوغان نحو الخدمات المباشرة لكسب ود الناس، وذلك لحاجته إلى كل صوت من أصوات الأتراك.
في مقابل “المَكرُمات الإردوغانية”، لا تجد أحزاب المعارضة وشخصياتها ما يمكن قوله. هؤلاء، وإن كانوا لا يرون إيجابية في رشوة السلطات للناس، إلا أنهم كانوا أذكياء في عدم رفض ذلك وانتقاده بشكل علني، خوفاً من ردة فعل ناقمة من المستفيدين من عطايا السلطة.
ويعاني الاقتصاد التركي من التضخم والتراجع في الاستثمارات ومن نسبة بطالة عالية، كما من تراكم الديون التي زادت عن 400 مليار دولار في نهاية العام 2022. أما عجز الحساب الجاري فقد وصل إلى حدود 8.8 مليار دولار في شهر شباط/فبراير الماضي فقط، فيما يتوقع معظم الخبراء أن عجزه سيبلغ حوالى 45 مليار دولار نهاية العام الحالي. وجاء الزلزال الذي ضرب شرق البلاد ليزيد الطين بلّة، ويؤدي إلى المزيد من الخسائر في الاقتصاد التركي، وخاصة في قطاعات السفر والسياحة والاستثمار الأجنبي.
بدل سلوك درب إصلاح الاقتصاد التركي بشكل بنيوي، راح إردوغان نحو الخدمات المباشرة لكسب ود الناس، وذلك لحاجته إلى كل صوت من أصوات الأتراك
وتُعد السياسة النقدية والمالية لإردوغان واحدة من الأسباب المباشرة لتراجع الاقتصاد التركي، وخاصة تلك القائمة على الحد من استقلالية السلطات المالية المحلية، الأمر الذي يُفسد المناخ الاستثماري في البلاد، في دولة يقوم اقتصادها بشكل أساسي على سياسة جذب الرساميل الأجنبية. كذلك الأمر، فإن قبضة إردوغان المحكمة على مفاصل الحياة السياسية العامة، وهو الرئيس وصاحب الصلاحيات الدستورية شبه المطلقة، تساهم، بدورها، في عدم قدوم رأس المال الأجنبي بكثافة إلى تركيا. إضافة إلى أن السياسة المستجدة القائمة على رفد الناس بـ”المَكرُمات” والعطايا، ولمناسبة الانتخابات النيابية والرئاسية حصراً، لن تفيد الاقتصاد بأي شكل من الأشكال، بل ستفيد إردوغان وحزبه حصراً.
يحتاج إردوغان إلى كسب كل صوت تركي للفوز، حتى وإن اضطره الأمر إلى تضخيم ديون البلاد ككل وإفقار تركيا وإعطاء كل ناخب مكرمة ما. فجل ما يريده هو البقاء في السلطة والحكم لولاية أخيرة تعطيه خمس سنوات إضافية في “المجمّع الرئاسي” في أنقرة.