رئيس تركيا.. أكثر من هزيمة وأقل من انقلاب!

بدت نتائج الانتخابات البلدية التركية أمراً خارجاً عن المألوف. هُزمَ رجب طيب إردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) للمرة الأولى منذ عام 2002، حيث تراجع رصيدهم الشعبي وحلّوا في المركز الثاني على صعيد البلاد بحوالي 35.5 في المئة من الأصوات فقط.

ثلث أصوات الشعب التركي هذه ليست نسبة كافية لإضفاء شرعية على الحُكم الإردوغاني. الثلث الثاني من الأصوات حصده حزب “الشعب الجمهوري” العلماني المعارِض بنسبة 37.7 في المئة. الثلث الأخير (26%) حصدته كل الأحزاب الأخرى.

أتت النتيجة مُخيبة لآمال حزب “العدالة والتنمية” الحاكم ورئيسه إردوغان. قال الرجل التركي الأقوى بعد صدور النتائج إن النتيجة “لم تكن كما نأمل”، مؤكداً “احترام قرار الأمة” في الانتخابات التي تشكل “نقطة تحوّل في بلادنا”. نقطة التحوّل هذه ثبّتتها نتائج الانتخابات، حيث تراجع رصيد الحزب الحاكم على حساب أحزاب علمانية وقومية أخرى، وحركات شبابية تهتم بالبيئة وحقوق المرأة والمثلية الجنسية وغيرها من الأفكار “الحديثة” الرائجة في تركيا في هذه الأيام.

هُزمَ حزب إردوغان في العاصمة أنقرة، كما في المدينة الأكبر إسطنبول ذات الـ16 مليون ناخب، كما في مدن إزمير، أضنه، بورصة، مرسين وغيرها. فاز العلمانيون في هذه البلديات، وانتقمت الناس من الأداء السيء للحكومة والحزب الحاكم، موجّهين صفعة لإردوغان بعد عقدين ونيف من السنوات في الحكم شبه الأحادي في تركيا.

أكرم إمام أوغلو، حسب خبراء أتراك، سيكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية التركية عام 2028، وربما ينجح في الوصول إلى “المجمع الرئاسي” في العاصمة أنقرة. لن يكون إمام أوغلو استثناءً في حينها، بل سيسير على خطى خصمه، إردوغان، الذي حكم بلدية إسطنبول عام 1994، ثم استفاد من تجربته فيها للوصول إلى السدّة الرئاسية

وعلى الرغم من أنها مجرد انتخابات بلدية، والناس تنتخب فيها عادة تبعاً للواقع المعيشي والاقتصادي والشؤون الخاصة بكل مدينة، إلا أن نتائجها كانت أقرب إلى شبه انقلاب سياسي وشعبي. ففي العاصمة أنقرة، لم يكن هناك من تنافس حقيقي، بحيث استطاع مرشح حزب “الشعب الجمهوري” المعارض منصور يافاش تجديد ولايته بأكثر من 60 في المئة من الأصوات، متقدماً بضعف الأرقام على منافسه المنتمي إلى حزب “العدالة والتنمية” الذي حصل على 30.7 في المئة من الأصوات.

المعركة الأهم كانت في مدينة إسطنبول. فقد فاز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو بأكثر من 51 في المئة من الأصوات، متقدماً على مرشح إردوغان، وزير البيئة والتطوير العمراني السابق مراد كوروم، بسهولة، والذي لم تتخطَ أرقامه الـ40 في المئة من أصوات المدينة التركية الأكبر.

رسم كاريكاتوري لأكرم إمام أوغلو

يُمثّل أكرم إمام أوغلو شخصية استثنائية في تركيا، حيث أثبت نفسه لأكثر من مرة في مواجهة ضغوط عديدة أبرزها على الصعيد القضائي، كما أرسى نهجاً تنموياً في المدينة التي يترأس بلديتها منذ عام 2019. الرجل هذا سيكون، حسب خبراء أتراك، مرشحاً لرئاسة الجمهورية التركية عام 2028، وربما ينجح في الوصول إلى “المجمع الرئاسي” في العاصمة أنقرة. لن يكون إمام أوغلو استثناءً في حينها، بل سيسير على خطى خصمه، إردوغان، الذي حكم بلدية إسطنبول عام 1994، ثم استفاد من تجربته فيها للوصول إلى السدّة الرئاسية.

في دراسة سريعة للأرقام التي أفرزتها الانتخابات البلدية، تظهر ثلاثة أعطاب رئيسية في شعبية إردوغان وحزبه. العُطب الأول، هو عُطب بنيوي، حيث تتراجع شعبية الحزب وإردوغان بين الشباب التركي غير المحافظين، وخاصة في المدن والولايات الغربية المطلّة على بحر إيجيه والبحر المتوسط. لا يكترث الكثيرون من المنتمين إلى فئة الشباب بمواقف إردوغان إزاء قضايا العالم الإسلامي، ولا بمواقفه المرتبطة بالحرب الروسية – الأوكرانية، ولا بافتتاح سدود مائية ضخمة في شرق البلاد وجنوبها. هذه الفئة تتماهى مع الأحزاب المعارِضة، وتحديداً تلك العلمانية واليسارية، كما الحركات “الثورية” الرافضة للأمر الواقع في البلاد.

العُطب الثاني ليس بنيوياً، إلا أنه لا يقل أهمية عن الأول، وترك أثراً على نتائج الحزب الحاكم بشكل كبير. فقبل الانتخابات البلدية، فتحت المعارضة ملف التعويضات المالية للمتقاعدين، وصوّبت على عدم رغبة الحكومة في زيادة هذه التعويضات. أما حجة الحكومة فكانت أن ضخ الأموال بالعملة التركية عبر صناديق التعويضات، سيؤدي إلى تراجع قيمة الليرة مقابل الدولار، يليها المزيد من التضخم والغلاء المعيشي والانهيار في سعر العملة التركية.

ومن المؤكد أن كبار السن والمتقاعدين، وخاصة من تقاعدوا من أسلاك الدولة، يؤيدون حزب “العدالة والتنمية”، لكن رفض إردوغان زيادة تعويضاتهم أنعكس سلباً على تصويتهم، خاصة وأن هذا الموضوع كان في صلب الحملات الانتخابية.

في نهاية الأمر، اعتكف بضعة ملايين من الأتراك من كبار السن عن التصويت، فخسر “العدالة والتنمية” قاعدة مهمة من الأصوات التقليدية التي تصب عادة لمصلحته، وهو الأمر الذي بدا واضحاً في نسبة المشاركة العامة التي لم تتخطَ الـ78 في المئة، بينما كانت حوالي 84 في المئة في الانتخابات المحلية الماضية عام 2019.

إقرأ على موقع 180  ناغورنو قره باخ.. ماذا لو امتدت الحرب خلف الجبال؟

أما العُطب الثالث والأخير الذي واجه “العدالة والتنمية” فكان الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي يواجه تركيا حالياً. فالتضخم زاد بنسبة 67 في المئة مقارنة بالعام الماضي، وتراجعت قيمة العملة المحلية لتصل إلى حدود 32.44 ليرة تركية مقابل كل دولار أميركي واحد في الأول من نيسان/أبريل الحالي، بينما كانت قيمتها 19.43 في مقابل الدولار في نيسان/أبريل الماضي. هذا الواقع الاقتصادي الصعب أدى إلى تصويت عقابي من الشعب التركي، وبخاصة في المدن التي تتأثر بالأزمات الاقتصادية أكثر من الأرياف المحافِظة. ففي تلك الأخيرة، وتحديداً في محافظات كونيا، قيصري، ملاطيا، وكهرما-مرعش حافظ إردوغان وحزبه على بعض التأييد، حتى وإن كانت أرقامهم متراجعة.

ومع ذلك، فإن الوضع الاقتصادي الصعب لم يكن السبب الوحيد في هذه النتائج الانتخابية. فقد تجاوزت الاحتجاجات المناهِضة للحكومة والفساد حدود المدن الكبرى لتشمل المناطق الريفية والمدن الصغيرة، حيث انضمت طبقات أوسع من المجتمع التركي إلى ركب المعارضة.

ثمة آراء وازنة بأن هذه الانتخابات فتحت أبواب التنافس السياسي على مصراعيها، لكن تمثل بداية نهاية سطوة إردوغان الطويلة على الحكم، أم هي مجرد محطة عابرة في مسيرته السياسية؟ البعض يرى أنها إشارة واضحة إلى تراجع شعبية الحزب الحاكم وضعف قبضته على السلطة، بينما يرى آخرون أنه من السابق لأوانه تقديم الاستنتاجات النهائية، وأن إردوغان يملك من القدرات والخبرات السياسية ما يُمكّنه من استعادة السيطرة في المستقبل!

من المؤكد أن نتائج الإنتخابات ستُشكل تحدياً كبيراً لإردوغان وحزبه على الصعيد الشعبي، ولا سيما لجهة الحفاظ على قاعدته السياسية في مواجهة المعارضة المتنامية.

(*) للمزيد من القراءة، راجع المقالة بعنوان: انتخابات تصفية الحسابات.. هزيمة مُذلة لإردوغان

Print Friendly, PDF & Email
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ولادة شرق أوسط جديد من.. جدة؟