تحيةً للّبنانيين.. السنّة!

أول ما سيتبادر إلى الأذهان لمن يعرفون كاتب هذه السطور وتاريخه، بعد قراءة هذا "العنوان الطائفي"، أن "الأبن الضال" عاد أخيراً إلى حظيرته بعد اغتراب طويل في عالم اليسار والعلمانية (بمعنى إنقاذ الدين والدولة من مُلوثات السياسة ومفاسدها الضيقة) والوعي الكوني الجديد الذي يقطع كلياً مع الوعي الماكيافيلي.

لكن الصورة ليست على هذا النحو بالطبع؛

كل ما هناك أننا توقفنا أمام بند في بيان “المؤتمر المسيحي الدائم” قبل أيام حول التواجد السوري في الوطن، كان في بدايته جيّداً حين ركّز على أن “ملف النزوح السوري هو ملف وطني وبامتياز، عابر لكل المناطق والأحزاب والطوائف ويجب التعامل معه على هذا الأساس”. لكن البيان يسارع إلى القول بعد لحظات: “.. والأهم هنا أنه يجب عدم السماح باستغلاله كعنصر لتفجير الساحة اللبنانية وتهديد السلم الأهلي والوقوع في فخ تحويله إلى ملف طائفي أو مذهبي خدمة لغايات وأهداف مشبوهة. ولا نعتقد أن هناك فئات لبنانية تعتبر الوجود السوري في لبنان هو دعم لكيانها وطائفتها”.

المقصود في الفقرة الأخيرة هي الطائفة السنّية، بما يعني أن ثمة مخاوف لدى الطوائف المسيحية وغيرها من أن تعمد هذه الطائفة إلى التحالف مع مليونين ونصف المليون سوري ينتمون في غالبيتهم العظمى إلى المذهب السنّي أيضاً، (كما فعلوا في حرب 1975-1979 حين تحالفوا مع الفلسطينيين) لتحسين مواقعهم في النظام والسلطة، أو حتى لتغيير البنية الديموغرافية برمتها لمصلحتهم.

مائة سنة من كيان لبنان الكبير، بما تضمنته من ثورات وحروب واضطرابات، أسفرت في نهاية المطاف عن ولادة انتماء وطني حقيقي وعن هوية وطنية تسعى الآن إلى التجسّد في كيان سياسي؛ وهذا بالتحديد ما يجعل العقل الجماعي اللبناني السنّي الآن يضع الأولوية لهويته الوطنية اللبنانية في تعاطيه مع الوجود السوري

حسناً. المخاوف كانت ستكون منطقية لو أنها تستند إلى معطيات موضوعية. لكن ما نشهده منذ العام 2011 وحتى الآن هو العكس تماماً، حيث لم تبرز حتى الآن ظاهرة سنّية واحدة، أو حتى بياناً واحداً (ما عدا ربما لافتة يتيمة في منطقة الطريق الجديدة (بيروت) مؤخراً تحدثت فقط عن أن “الفلسطينيين والسوريين أخوة لنا”)، أو تحرّكاً سياسياً من القادة الطائفيين السُنّة، يشي بأنهم قد يستثمرون الورقة الديموغرافية السورية لحرق أوراق الطوائف الأخرى.

قد يُقال هنا أن عدم تحرّك أو تحريك العصب السنّي، ليس فقط من القادة الطائفيين بل حتى لدى القواعد الشعبية، ناجم عن “مصيبة” الإنهيار الإقتصادي التي طالت كل فئات اللبنانيين، فيما هناك مليون ونصف المليون من المواطنين السُنة يحظون بدعم مالي مما يُسمونه الآن “الأمم” (أي الأمم المتحدة ودول وهيئات أخرى). وهذا حرّك “صراعاً طبقياً” مع النازحين السوريين أكثر مما ضرب على وتر التضامن السنّي الطائفي معهم.

ربما هناك بالفعل نوعٌ من الغيرة والحسد هنا. لكن، وفي الوقت نفسه، لا يجب أن ننسى أن الفلسطينيين إبّان الحرب الأهلية اللبنانية كانوا حتى “أغنى بكثير” من النازحين السورييين، ولم يُثر ذلك حينها مشاعر طبقية لديهم، لأنهم كانوا منخرطين في استراتيجية مزدوجة: دعم القضية القومية عبر الفلسطينيين بعد كارثة حرب العام 1967، واستخدام هذا الدعم نفسه لتغيير النظام السياسي اللبناني.

ويجب أن ننتبه في هذا السياق إلى أن هذه الاستراتيجية السنّية والإسلامية، تقاطعت أو تواجهت مع استراتيجية مسيحية استندت هي الأخرى إلى التحالف مع طرف خارجي (إسرائيل)، ومن ثم استخدام هذا التحالف للحفاظ على تركيبة النظام السياسي القائم منذ العام 1943.

بكلمات أوضح: كلا الموقفين كان يفتقد إلى أي انتماء وطني حقيقي يصوغ أولوياته وفق مصالح هوية وطنية كان يجب أن تعني أول ما تعني وضع المصالح العليا الوجودية والإستراتيجية للبلد فوق (وبدل) أي مصالح فئوية أخرى، ورفض تحميل هذا الكيان الصغير وزر صراعات كبرى لا طاقة له عليها.

بيد أن هذه الحرب الأهلية، بما أدت إليه من دمار شامل، وإبادات، وتهجير ربع الشعب اللبناني، أطلقت على ما يبدو في الوعي الجماعي العام لدى كل الطوائف نبضاً وطنياً جديداً، تمحور حول وعي جديد يدعو إلى بناء “الدولة – الشعب” (وليس الأمة – الدولة) وفق الأسس الأخلاقية – القانونية الشهابية، وإلى بدء تجاوز الطائفية في النفوس حتى قبل النصوص.

صحيح أن المسار السياسي بعد إتفاق الطائف غرق في مستنقع المحاصصات الطائفية والفساد المطلق في أوساط الطبقة الطائفية السياسية الحاكمة، لكن هذا لم ينفِ التطور التاريخي الذي أطلّ برأسه، حين قَبِلَ المسلمون للمرة الأولى (وليس فقط في الدستور) الكيان اللبناني كوطن نهائي، وحين بدأ المسيحيون يغازلون فكرة لبنان الكبير بعيداً عن إسار لبنان الصغير. وهذا أمر تجسّد بوضوح ليس فقط في انتفاضة 2019 بل قبلها في التظاهرة المليونية بعد اغتيال رفيق الحريري في العام 2005.

بكلمات أوضح؛ مائة سنة من كيان لبنان الكبير، بما تضمنته من ثورات وحروب واضطرابات، أسفرت في نهاية المطاف عن ولادة انتماء وطني حقيقي وعن هوية وطنية تسعى الآن إلى التجسّد في كيان سياسي؛ وهذا بالتحديد ما يجعل العقل الجماعي اللبناني السنّي الآن يضع الأولوية لهويته الوطنية اللبنانية في تعاطيه مع الوجود السوري، من دون أن يكون هناك بالطبع أي شبهة بأنه بات “عنصرياً” أو تنكّر لانتمائه العروبي (التي نصّ عليه الدستور اللبناني)، أو حتى أنه سيتحرّك في إطار اللعبة الطائفية لاستخدام الورقة السورية لتغيير موازين القوى لمصلحته.

ربما أزفّ الوقت حتى لتغيير المفاهيم: بدلاً من الحديث عن مارونية سياسية، أو سنّية سياسية، أو شيعية سياسية، ربما دقّت ساعة الحديث عن مارونية وطنية، أو سنّية وطنية، أو شيعية وطنية

ثمة نقطة أخرى لم يلتفت إليها الكثيرون: في الانتخابات النيابية الأخيرة (2022)، وحين غاب ظل الزعيم الطائفي (سعد الحريري)، لم ينتخب اللبنانيون السنّة في الخارج كما في الداخل، (المعروفون بكونهم طائفة محافظة دينياً وسياسياً)، لوائح قادة طائفيين آخرين مثل فؤاد السنيورة وبهاء الحريري وغيرهما، بل اختاروا مرشحين تغييريين وحتى علمانيين. ومرة أخرى، هذا يجب أن يكون مؤشراً آخر يجب أن يدفع علماء الإجتماع والسياسة إلى التدقيق في التغييرات الهائلة التي لا تني تتراكم منذ عقود في مجال ولادة وتطور الهوية الوطنية اللبنانية.

إقرأ على موقع 180  البصيرة.. ونخبة الحراك في لبنان (1)

لا بل أكثر؛ ربما أزفّ الوقت حتى لتغيير المفاهيم: بدلاً من الحديث عن مارونية سياسية، أو سنّية سياسية، أو شيعية سياسية، ربما دقّت ساعة الحديث عن مارونية وطنية، أو سنّية وطنية، أو شيعية وطنية.

قد يبدو أن ثمة تناقضاً ظاهرياً oxymoron هنا: أي كيف تأتلف الطائفية مع الوطنية وهي نقيضها؟ وهذا صحيح. لكن، في سياق التاريخ والتجارب الخاصة اللبنانية، قد لا يبدو هذا تناقضاً حاداً، حين نضع في الإعتبار أن الانتماء الوطني بدأ يترعرع بالفعل في عرين الإنتماء الطائفي.

إنه الديالكتيك الهيغلي والماركسي وقد بدأ يتجسّد على أرض الواقع في وطن المفاجآت لبنان.

***

هذا هو السياق الذي جعلنا نوجّه التحية للبنانيين السنّة. (حتى الآن على الأقل)

ألا يستحقون ذلك؟

Print Friendly, PDF & Email
سعد محيو

كاتب سياسي

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لا للفيول الإيراني.. نعم لـ"الخزمتشية"!