كي لا ننسى أن القطاع العام يستدعي العصيان!

منذ ما يقارب السنتين، كتبت مقالاً بعنوان "الراديكالية في المحاسبة.. أساس الملك"، تناولت فيه كيفية أن تكون المحاسبة راديكالية عند إعادة هيكلة وبناء النظام اللبناني الجديد. قلت إن المحاسبة يجب أن تطال كل من شارك في الحكم منذ ما قبل اندلاع الحرب الاهلية وصولاً إلى يومنا هذا، وسوقهم جميعاً الى المحاسبة. فاتني حينها، ان تكون المحاسبة أيضاً راديكالية مع موظفي القطاع العام من دون استثناء. لماذا هذا الموقف المتطرف؟

مع إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عمدت معظم الأحزاب اللبنانية إلى إعادة تموضع ميليشياتها، لتنتقل تلقائياً من المتاريس والشوارع إلى مؤسسات الدولة وخاصة العسكرية والأمنية منها. لاحقاً، عمدت هذه الأحزاب، ومن خلال نظام الزبائنية المستمر حتى يومنا هذا، إلى السيطرة شبه الكاملة على وظائف القطاع العام (وإلى حد ما بعض القطاع الخاص) من خلال تعيين الحزبيين والموالين والأزلام “المحسوبين” في جميع مؤسسات الدولة من دون استثناء، من دون اعتماد أي معايير للتوظيف ولا سيما معيار الكفاءة والتحصيل العلمي والسيرة الذاتية وحتى نظام المباراة الذي تعتمده معظم دول العالم الأول أو الأخير.. لا فرق..

وبحسب الأرقام الشائعة، فان نسبة موظفي القطاع العام في لبنان تُقدّر بحوالي 350 الف موظف بين ثابت ومتقاعد وأجير ومياوم، وطبعاً يتضمن هذا الرقم كل المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية. فهذه الأرقام التقديرية تعكس حالة الترهل العام في مؤسسات الدولة وانتفاخ أعداد الموظفين الذين يكبدون خزينة الدولة أعباء رواتبهم ومخصصاتهم وتعويضاتهم. وحتى يومنا هذا، لا أرقام لدينا عن الأعداد الدقيقة لموظفي القطاع العام، وهذا يعكس قدرة المنظومة الحاكمة على نهب المال العام من خلال توظيفات وهمية ومن دون تحديد رقم واضح لهؤلاء الموظفين “العاملين”، كما المتقاعدين منهم.

اذا كنا جادين بالإصلاح، علينا أن نعيد تقييم موظفي القطاع العام. وهذا القطاع لا يستقيم الا اذا تم توقيف جميع العاملين دون استثناء عن الخدمة وبطريقة راديكالية

ولا يخفى على أحد أن الإنهيار المالي كشف المستور وسلّط الضوء على نوع آخر من الفساد هو الفساد الإداري وخصوصاً في القطاع العام. فموظفو هذا القطاع بغالبيتهم العظمى باتوا يفتقرون الى الكفاءة؛ فهم إما دخلوا إلى الوظيفة العامة “بالواسطة” أو من خلال نظام “الكوتا” أو بتعبير أوضح ما تسمى المحاصصة بين الأحزاب الطائفية الحاكمة.. والمتحكمة!

هؤلاء طبعاً، شاءوا أم أبوا، باتوا جزءاً لا يتجزأ من منظومة الفساد الحزبي الطائفي الميليشياوي. من منا لا يتذكر لعنة الذهاب إلى أي مؤسسة تابعة للدولة اللبنانية لتسجيل سيارة، أو دفع مخالفة، أو حتى إجراء معاملة رسمية عادية جداً. ما معنى “الحلوينة” التي تتخطى في معظم الأحيان كلفة المعاملة نفسها؟. من منا لا يعرف أنه اذا لم يدفع “الحلوينة” كيف تستريح معاملته في الرفوف والأدراج وكيف يرحمها الله. وثمة لائحة تطول من الدرك والامن الداخلي المتربص بالناس وأصحاب المهن الحرة، الى موظفي الضمان والجمارك، وغالبية مؤسسات القطاع العام التي هي على تماس مع مصالح المواطنين ولا سيما في وزارتي المال والداخلية.

للأسف، لا يمكنني أن اعتبر أن مطالب هؤلاء محقة، بل على العكس يجب ان يُحاسب كل من هو صار سبباً من أسباب الإهمال والتسيّب والفساد وابتزاز الناس وإذلالهم.

من المعيب على الذين تم توظيفهم في المواسم الإنتخابية مثل أغلبية موظفي هيئة “اوجيرو” أن يتمردوا على المواطنين ويهددونا يومياً بالإضراب. من المعيب على موظفي القطاع العام الذين أخذوا حقوقهم بسلسلة رتب ورواتب كبّدت الخزينة الكثير الكثير أن لا يداوموا تحت أي حجة كانت، خصوصاً أن هناك من يُحملهم مسؤولية ولو جزئية عن الانهيار المالي والنقدي.

وكي لا ننسى، كم من موظف رسمي “وهمي” في البنك المركزي او في العديد من الوزارات والمؤسسات العامة كمصلحة سكك الحديد وغيرها، يتقاضى بعضهم رواتب عالية من دون ان يحضر ولو لمرة واحدة فقط الى العمل. كم من مستشار تم تعيينه براتب 1000 ليرة لبنانية، ولكن اصبح بسحر ساحر من كبار المتمولين. أما المتقاعدون، فقد باتوا يُشكلون عبئاً على خزينة الدولة. ألم يحن الوقت لإستبدال التعويضات والرواتب ما بعد التقاعد بنظام تقاعدي جديد يشمل القطاعين العام والخاص؟ ألم يحن الوقت لإعادة النظر في هيكلية القطاع العام والأهم نظام التوظيف؟ الجواب وبكل بساطة: نعم، ولكن بطريقة راديكالية.

من هنا، اذا كنا جادين بالإصلاح، علينا أن نعيد تقييم موظفي القطاع العام. وهذا القطاع لا يستقيم الا اذا تم توقيف جميع العاملين دون استثناء عن الخدمة وبطريقة راديكالية. علينا ايضاً الإستفادة من التجربة الغربية والأوروبية تحديداً في إعادة هيكلة القطاع العام وتحديثه، وطبعاً والأهم إعتماد آلية للتوظيف تكون حديثة ومبنية على الكفاءة والعلم والخبرة. علينا أن نتعامل بشفافية مع الوظائف وأن يتم تقديم الطلبات والسير الذاتية والشهادات ومن ثم يخضع هؤلاء للمباراة والتقييم وتكون الوظيفة معلنة على مواقع المؤسسات الحكومية المعنية بالتوظيف. ألم تُبنى ألمانيا في مرحلة ما بعد الحرب على هذا النحو وكذلك الاتحاد الاوروبي، برغم “الكوتا” المتعلقة بكل الدول الأعضاء، فلما لا نتعلم من راديكالية العالم الغربي في التوظيف من أجل تحسين الإنتاجية والخدمة؟

علينا بالعصيان المدني، لأننا لسنا مستعدين لتمويل أزلام الطبقة الحاكمة مجدداً، ففسادهم وسوء إدارتهم وجشعهم وقلة مسؤولياتهم قد جعلت من لبنان في قائمة أواخر الدول في مؤشر الحكم الرشيد

ولو سألنا اليوم أي موظف عام، ألديك سيرة ذاتية؟  طبعاً الجواب معروف. هذا مثل صغير عن عدم كفاءة معظم موظفي القطاع العام وافتقارهم لأدنى الخبرات.

إقرأ على موقع 180  من جورج فلويد إلى خيري علقم.. ازدواجية معايير الغرب

هذا النظام الزبائني الحزبي سيطر على الدولة ومؤسساتها حتى اصبح القادر والكفؤ والمتعلم خارج البلاد، والفاشل صار هو الحاكم بأمر الناس في الداخل.

من هنا، لسنا مضطرين لتمويل رواتب قطاع عام غير منتج مما تبقى لنا من قدرات مالية ضعيفة.. هذه وجهة نظر قاسية قد لا تُعجب الكثيرين لكنني أرى أن قولها أفضل من عدم المجاهرة بها.

علينا بالعصيان المدني، لأننا لسنا مستعدين لتمويل أزلام الطبقة الحاكمة مجدداً، ففسادهم وسوء إدارتهم وجشعهم وقلة مسؤولياتهم قد جعلت من لبنان في قائمة أواخر الدول في مؤشر الحكم الرشيد.

Print Friendly, PDF & Email
هاني عانوتي

باحث، أستاذ جامعي لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  من جورج فلويد إلى خيري علقم.. ازدواجية معايير الغرب