تتزامن شرارة هذه الحملة مع منحة المليار يورو “الملتبِسة” للبنان التي وعدت بها شفهيّاً رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين، وهي ذاتها التي تُطلق التصريحات الداعمة للإبادة الجماعيّة للفلسطينيين في غزّة. وكأنّ هذه المسؤولة الأوروبية لا تعرِف أنّ هذا سيُصعِّد وتيرة الصراع بين السلطات اللبنانيّة والأمم المتحدة حول مساعدة اللاجئين، وحول سبل إعانة الفقراء اللبنانيين والسوريين على السواء وحول طرق توزيعها، ومّما سيصبّ في الادّعاءات أنّ اللاجئين كانوا يحصلون على الإعانة المالية بالقطع الأجنبي وليس بالليرة اللبنانيّة خلال الأزمة.. كلّ هذا في ظلّ تنامي التجييش الطائفي والمطالبة بـ”لا مركزيّة موسّعة” في بلدٍ صغير (!) وما يترافق مع المخاوف الحقيقيّة من اجتياحٍ إسرائيليّ للبنان، بالتزامن مع اجتياح رفح أو بعده.. كمن يصبّ الزيت على نيران أزمة أخذت لبنان إلى هشاشةٍ مستدامة.
بالمقابل، تعيش جمعيّات “المجتمع المدني” اللبنانيّة منها والسوريّة تحديداً، صدمة تراجعٍ كبيرٍ، بل ربّما نهاية الدعم المالي للاتحاد الأوروبي وللدول الأوروبية الكبرى لمشاريعها غير الإغاثية. منّةٌ كانت تتدفّق على “تدريب وتأهيل” اللاجئين والنازحين الداخليين السوريين وكذلك على جمعيّات تأسّست خارج سوريا ولبنان وتركيا للمحاسبة على الانتهاكات المختلفة خلال الصراع، تستخدمها هذه الدول لأغراضٍ سياسيّة، بعيداً عن منطق ضرورة تلازم المصالحة والمحاسبة لتخطّي الحروب الأهليّة. ويمكن لهذا التقلّص الكبير أن يطال أيضاً مؤسّسات الأمم المتحدة وكذلك المنظّمات الدوليّة الكبرى الناشطة إغاثيّاً.
فهل نحن أمام مفترق طرق أوروبي، كما أمريكي، حيال بلدان “الهلال الخصيب”؟ سواءٌ يأتي ذلك من تداعيات الحرب في أوكرانيا وتوجّه أوروبا للانخراط فيها أكثر وتخصيص معظم مواردها لذلك، أم أنّ هناك قناعة تشكّلت لدى أصحاب القرار الأوروبيين تقضي بتفويض إسرائيل ليس فقط لإنهاء القضيّة الفلسطينيّة – ما يتّضِح من تصرّفاتهم حتّى تجاه رأيهم العام وجامعاتها – وإنّما أيضاً لإعادة تشكيل هذا “الهلال” سياسيّاً في ظلّ ردعٍ أمريكي حازمٍ لكلٍّ من إيران وتركيا، وتغييبٍ لأيّ دورٍ فاعلٍ لمصر كما لدول الخليج.
النزعة العنصريّة اللبنانيّة، أو بتحديدٍ أكثر لبعض اللبنانيين، تجاه السوريين ليست جديدة، وتعود إلى ما قبل الصراع السوري واللجوء الكثيف. وهي قديمةٌ قدم الطائفيّة المتجذّرة في لبنان وأبعد من التواجد العسكري السوري في هذا البلد. تتغذّى من بعدٍ طبقيّ وأيضاَ اجتماعيّ، رغم أنّ لبنانيّين كُثُر من أصولٍ سوريّة، أو ربّما تعود بالتحديد لذلك
إنّ مفترق الطرق هذا يشكِّل تحدياً مفصلياً للبنانيين والسوريين على السواء، وربّما أيضاً للعراقيين. خمس سنوات من الانهيار المالي اللبناني مع غياب أيّ أفق لإصلاحات ولاستعادة دور الدولة، وثلاث عشرة سنة على الصراع الأهلي السوري دون أفق سوى الإفقار والشرذمة، وواحد وعشرين سنة على غزو العراق وتدمير دولته.
بالتأكيد يُشكّل اللاجئون السوريون عبئاً على الدولة اللبنانيّة، الهشّة اليوم. وبالتأكيد أيضاً تعمّد أمراء الحرب زيادة هشاشتها عبر تقويض مواردها. وبالتأكيد لا بدّ من خلق ظروفِ عودةٍ كريمة وآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم. لكن لا معنى للخطاب عن طرد اللاجئين غير المسجّلين في الأمم المتحدة، إذ أنّ الحكومة اللبنانيّة هي بالتحديد التي طلبت وقف هذا التسجيل عام 2015.
وبالطبع إنّ جزءاً من أسباب اللجوء السوري اقتصاديّة، لأنّه كما النزوح الداخليّ إلى المناطق خارج سيطرة الحكومة السوريّة مصدره انعدام سبل المعيشة ومنع إعادة الإعمار وحتّى منع ما يسمّى “التعافي المبكِّر” فعليّاً. ولا ترغب “الدول المانحة” في دعم عودة النازحين واللاجئين اقتصاديّاً، مثلاً عبر تخصيص ما تُقدّمه لسنوات للإغاثة كمساعدة للعودة.. أو من خلال دعم فتح إعادة عبور البضائع والأفراد والأموال عبر خطوط التماس، لأنّ هذا قد يساعد على عودة انتعاش الإقتصاد السوري.
لكنّ لا بدّ أنّ هذه الدول تعرِف أنّ سياساتها، من العقوبات إلى طرق توزيع الإغاثة، تصبّ واقعيّاً ضمن سياسة السلطة القائمة في سوريا. فهي ترتاح من مسؤوليّة تحمّل أعباء السوريين: من تسجيل ولادات مواطنين جدد إلى المصالحة الوطنيّة وحتّى تنظيم اقتصاد يُؤمّن للسكّان الحدّ الأدنى من الكرامة. سلطة تعي، كما أمراء الحرب في لبنان، أنّ إفقار معظم السكّان وإلهائهم بالبحث عن لقمة العيش أو بالسعي للهروب من البلاد يمنع أيّ إمكانيّة للإصلاح، فما بالك بالتغيير؛ وبالطبع لا يعفي هذا أصحاب المسؤوليّة السياسية في الشمالين الشرقي والغربي في سوريا من المسؤوليّة بحقّ بلادهم وأهلها.
بعد أن فقد لبنان دوره المالي حيال فوائض النفط، لا مستقبل لنهوضٍ اقتصادي للبنان دون سوريا، والعكس بالعكس. ولا مستقبل لمشروع إعادة بناء دولة في لبنان دون مشروعٍ مماثل في سوريا
النزعة العنصريّة اللبنانيّة، أو بتحديدٍ أكثر لبعض اللبنانيين، تجاه السوريين ليست جديدة، وتعود إلى ما قبل الصراع السوري واللجوء الكثيف. وهي قديمةٌ قدم الطائفيّة المتجذّرة في لبنان وأبعد من التواجد العسكري السوري في هذا البلد. تتغذّى من بعدٍ طبقيّ وأيضاَ اجتماعيّ، برغم أنّ لبنانيّين كُثُر من أصولٍ سوريّة، أو ربّما تعود بالتحديد لذلك. وتشابه ما تعرفه سوريا ذاتها بين أبناء المدن و”الفلاّحين”، أو بين فلاحي الجبال وفلاحي السهول.. وبالطبع استنهاض هذه العنصريّة له دوافع سياسيّة لبنانيّة كما التجييش الطائفيّ.. واللافت للإنتباه أنّ الاستنهاض والتجييش يأتيان في الوقت الذي يحتاج فيه لبنان إلى حدٍّ أدنى من الوحدة الوطنيّة أمام التهديد الإسرائيليّ الجدّي الذي لن يُفرِّق بين الطوائف اللبنانيّة ولا بين اللبنانيين والسوريين.
أضِف أنّه بعد أن فقد لبنان دوره المالي حيال فوائض النفط، لا مستقبل لنهوضٍ اقتصادي للبنان دون سوريا، والعكس بالعكس. ولا مستقبل لمشروع إعادة بناء دولة في لبنان دون مشروعٍ مماثل في سوريا.
ثمّ ماذا لو قام الساسة اللبنانيّون، ومهما كانت الحجّة، فعلاً بطرد عشرات آلاف اللاجئين السوريين دفعةً واحدةً؟ هل يُمكِن أن يحدُث ذلك دون تنسيقٍ وثيقٍ بين مؤسّسات الدولتين؟ ما هو صعبٌ في ظلّ عدم الاستقرار السياسي اللبناني والتمنّع السوري عن تحمُّل المسؤوليّة. وما المشهد الذي سيُمثّله الساسة في البلدين حين ذلك في أعين مواطنيهم وأبعد من ذلك في العالم. ألا يصبّ هكذا مشهد في مصلحة الإجرام الإسرائيلي؟
ثم ماذا لو دفع المناخ المجتمعي القائم اليوم، وتوسّع التعديات الحالية بشكلٍ أكبر، بعشرات القوارب لتنطلق يوميّاً إلى قبرص أو تركيا أو غيرها؟ من لبنان ومن سوريا، بسوريين ولبنانيين وفلسطينيين؟ خاصّةً إذا ما قام الساسة الإسرائيليّون فعلاً بعدوانٍ كبير على لبنان.. وسوريا.
لا بدّ من مراجعةٍ مجتمعيّة جديّة يستدعيها مفترق الطرق الحالي. مراجعةٌ بين اللبنانيين أنفسهم، وبين السوريين أنفسهم، وبين اللبنانيين والسوريين، وبينهما وبين الدول “الداعمة” و”المانحة”، لأنّ التجييش الطائفيّ والعنصريّة الداخليّة لن يأخذا سوى إلى المزيد من الهشاشة، والتطلّع إلى أنّ “الخارج”، مهما كان هو الحامي والمنقِذ والداعي والراعي للإصلاح، لن يؤدّي سوى إلى المزيد من الانهيار.