“البؤس العربي”.. والمستقبل الغامض!

أعترف أن حال أمتي لا يعجبني. أمتي التي أتحدث عنها هي مجموعة الشعوب العربية وتسكن أرضاً تمتد بين الخليج في الشرق والأطلسي في الغرب. تقاربت مع شعوب في الجوار عبر القرون ومن خلال عقائد دينية ومصاهرات ومصالح، تقاربت حتى تشابهت جميعها أو كادت. ثم تدهور حالها، أقصد حال أمتي، حتى أنهم كتبوا في وصف قدرها ومكانتها ما يملأ جزءاً معتبراً من تقرير صدر عن جامعة جونز هوبكنز عنوانه "مؤشر البؤس العالمي".

استخدم واضعو التقرير لقياس البؤس أربعة معايير أهمها نسب البطالة والتضخم ومعدلات الإقراض والنمو المحلي الإجمالي. يقيسون البؤس في إقليم هو الأغني في عالم الجنوب. لا أشك في نزاهة الباحثين أو في موضوعيتهم والتزامهم الأسلوب العلمي. وكما أنني لا أخفي إعجابي بعنوان التقرير وباستخدام الباحثين مترادفات عبرت فعلاً وللأسف الشديد عن حال الغالبية من أفراد الأمة التي تسكن هذا الإقليم. وبذكاء شديد متوقع من باحثي هذه الجامعة المرموقة جرى التبادل الغزير في وصف حال الأمة بين صفات منها البؤس والبطالة والكآبة والتعاسة. أظن أننا لا نستحق أن تجتمع علينا هذه الأوصاف، وأعتقد أن استمرار ترداد هذه الأوصاف لحال الأمة العربية ككل، قد يُشجع الأقلية القادرة فيها والواثقة من براءتها وعدم انطباق أي من هذه الصفات عليها، على الاندفاع بحسن نية نحو انتهاج سياسات من شأنها أن تزيد الفجوة اتساعاً بينها وبين الأكثرية الموصوفة في التقرير بالبؤس والتعاسة.

وهذا وللحق لأمر جد خطير. نتيجته الأولى لو حدث أننا، وأقصد أمتنا، تصبح لتجد نفسها انحدرت مكانة ونفوذاً بين مثيلاتها من الأمم، أو لتجد نفسها في نهاية المطاف وقد انفرط عقدها شعوباً متنافرة، كل شعب منها خلع عن نفسه، أو انخلعت عنه، هوية العروبة. نتيجته الثانية أن تصبح الأمة لتجد المفهوم الافتراضي الذي اكتست به كغطاء يستر نقائصها ومواقع ضعفها ونقاط شكوكها، وأقصد النظام الإقليمي العربي، وقد صار هو نفسه محل شك. أخشى أن يتقلص المفهوم الافتراضي شيئاً فشيئاً، فمن عنوان لمجلد إلى عنوان لفصل في كتيب إلى سطر في مقال عن تاريخ السياسة أو عنوان حكاية قصيرة عن صعود وانحدار العرب!

ومع ذلك، كثيرون لا يستبعدون على المنظرين الجدد للنظام الإقليمي العربي أن يُفكّروا ويبحثوا عن صيغة تسمح لهذا النظام العربي بحالته الراهنة أن يصير هامشاً في نظام إقليمي آخر إلى حين استعادة عافيته.

***

أين الحقيقة وراء ما حدث ويحدث للأمة العربي؟ أمؤامرة حيكت لنا بإتقان؟ صحيح أن المؤامرة لصيقة الصلة بالعلاقات الدولية، تكاد لا تخلو منها علاقة بين دولتين أو بين مجموعتين من الدول، ولكني وإن كنت لا أرفضها أو أنكر وجودها، إلا أنني لا أعطيها حق أن تطغى على غيرها من العناصر الفاعلة في العلاقة الدولية.

حاولت مدرسة الاستشراق إلصاق الأسلوب التآمري بمنظومة السلوك السياسي العربي حتى صار التآمر في بعض كتابات المؤرخين الغربيين سمة ثابتة انتقلت من بعدهم إلى كثير من الباحثين في أحوال الأمة العربية وبخاصة تاريخها السياسي. أرفض نظريات المؤامرة ولا أستبعد التآمر. هناك في الواقع العربي الراهن أسباب للانحدار لا يمكن ولا يجوز إنكارها ولا بد من مواجهتها إن شئنا وقف الانحدار وشئنا الاستعداد للصعود.

يجب أن نتساءل إن كان السياسيون في بعض دولنا العربية تركوا عبقرياتهم تنحسر. أعني بذلك أن بعض السياسيين في هذه الأمة بدأوا مسيراتهم بكفاءة. ومع مرور الوقت الطويل، شاخت الكفاءة كأي خاصية أخرى وركنت الطبقة السياسية إلى الرضا بالمألوف والسهل والقمع أحياناً عوضاً عن بذل الجهد لتطوير الطموح.

قيل وتردد أن بعض السياسيين، في عالمنا العربي كما في خارجه، تنهكهم ضغوط شعوبهم أو يضجون بالشكوى من بطء تفاعل الشعوب مع تطلعاتهم وأحلامهم، بل وراح البعض منهم يتهم الشعب في بلده بالتمسك بالتخلف والفقر والتراخي في العمل. أنا نفسي سمعت رئيس دولة، خلال حوار مغلق، يتمنى لو أمكنه تغيير شعبه بشعب آخر. ليس جديداً على التاريخ خيبة أمل سياسيين في شعوبهم إلى حين يتضح بعد رحيلهم أن غرور حاكم وأنانيته كانتا وراء نفور الشعب. عاصرت هذه الخيبة في الأرجنتين وتابعتها في روسيا خلال مرحلتها الانتقالية من الشيوعية إلى المجهول واستمعت إلى شرح مستفيض من زملاء كانوا في إفريقيا وفي بيرو وبوليفيا.

أرفض القول بأن شعباً كان فاشلاً طول الوقت. شعوبنا في الشرق الأوسط لم تكن فاشلة طول الوقت ولا كانت تعيسة ومتشائمة على الدوام. سعت للنجاح والرخاء والاستقرار ولكنها نادراً ما وجدت الفرصة مناسبة. قيل كسالي لا يعملون وإن عملوا لا ينتجون. وعلى عكس ما قيل هاجروا بمئات الألوف أو بالملايين دليلاً على قدرة ورغبة ونية في التقدم. كانت الطبيعة عائقاً أمام تقدم الشعوب في بعض المراحل والاستعمار في مراحل أخرى والسياسيون بفساد بعضهم أو قلة خبرتهم وتجاربهم في العمل السياسي في معظم المراحل. ومع ذلك أفلح البعض منهم حين أقاموا جامعة الدول العربية كإحدى أقدم المنظمات الإقليمية في العالم ووضعوا لها ميثاقاً للعمل الإقليمي فشل خلفاؤهم في تطويره على امتداد سبعين سنة أو أكثر.

إقرأ على موقع 180  هل انتصر الجولاني على الظواهري في إدلب؟

***

نتساءل ألا يُمكن أن يكون السبب وراء هذه السمعة أو الصفات السيئة التي تلصق بالأمة العربية بين الحين والآخر أن النظام الإقليمي بشكله الراهن وحجم عضويته الكبير لم يعد بميثاقه ومنظمته الإقليمية العتيقة يرضي تطلعات وآمال شعوب هذه الأمة.

يُقال إن النظام الإقليمي فشل فراحت الشعوب تبحث عن مصالحها خارج هذا النظام. يُقال أيضاً إن الشعوب لم تعد تفرز قيادات تُجدّد بها دماء القائمين على العمل العربي المشترك.

الواضح لي ولزملاء كثيرين أن تغيرات بل تحولات كثيرة وقعت في مؤسسات الحكم ودوائر الاقتصاد والمجتمعات المدنية ووعي الأقليات العرقية والدينية في عديد البلاد العربية دون أن تنعكس آثارها على عمل وتوجهات وهياكل جامعة الدول العربية، المنظمة الإقليمية ذات التاريخ “العتيد” والميثاق “المجيد”.

السنوات القادمة في حياة أمتنا تبدو لي من على البعد وبالتمني حبلى بكل ما هو غريب وجديد.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لأستراليا دور يتجدد