لحظة عربية حلّت ورحلت.. والأمل لم يرتحل

في التاريخ العربي قرون عديدة شهدت إسهاما كريما من جانب الطبقات العربية الحاكمة في نهضة البشرية. تخللت هذه القرون عقود تخلف رهيب وفساد فظيع ووقائع تمرد وعدم استقرار وهزائم عسكرية وانفراطات في جميع المجالات، ولكنها عقود أو فترات سجّل التاريخ العربي بعضها أو أكثرها تحت عناوين النكسات، أي انقطاعات في تيار كان الظن في الخيال العربي أنه تيار متدفق إلى ما لا نهاية.
انتهت آخر هذه العقود بسقوط كبير للعرب، سقوط متعدد الأبعاد والأقطار، عندما اجتاحت قوات الإمبراطورية العثمانية الناشئة جل بلاد العرب واستقرت فيها بالقمع والتمييز العنصري لقرون ليست قليلة. بقيت تعيث في معظم أرجائها تخلفاً أسوأ من التخلف الذي لحق بمؤسسات الحكم في بلادها، وفي النهاية ورغم محاولات هزيلة للإصلاح السياسي ورغم محاولات جريئة للاستقلال والتحديث أقدم عليها ولاة السلطة العثمانية في مصر وتونس، اجتمعت عناصر التخلف لتشارك في صنع هزيمة إمبراطورية مريضة في الحرب العالمية الأولى.
تحت رماد الحرب وأطماع المنتصرين والحبر الغزير الذي كتبت به مواد اتفاقات مؤتمر فرساي، تحرك عرب، أفراد وجمعيات ونوادٍ ومؤتمرات وصحف، بهدف واحد لأول مرة، وليس لآخر مرة. كان هدفهم نشر نداء بكلمات واضحة لا تقبل التشكيك، تنادوا بأن الأرض التى يعيشون عليها، أو ينوون العودة إليها، أرض عربية. نحن عرب والأرض عربية، لسنا عثمانيين أو وهابيين، ولن نكون إنجليزاً أو فرنسيين. لم يكن المنتصرون الأوروبيون طامعين فى البشر، طمعهم اقتصر على الأرض وما في جوفها. لم يمانعوا في أن يعلن العرب تمسكهم بهويات وطنية وقومية في آن بشرط الاحتفاظ في الوقت نفسه بحماية كل من فرنسا وإنجلترا.
تؤكد أمريكا بانسحاباتها المتتالية والمتنوعة أن الإقليم العربي لم يعد موقعا استراتيجيا له أهمية في خطط مستقبل الإمبراطورية الأمريكية خلال انحدارها
هكذا ظهر جيل لمرحلة جديدة في حياة العرب. جيل يحمل هويات أولية وتداعب خياله وعواطفه ومصالحه هوية وطنية ويحلم بهوية أعظم، هوية عربية جامعة تعيش في ظلها بتناسق وتفاهم وإخلاص هويات مركبة أعلاها في الدرجة والولاء الهوية الوطنية أي القطرية. لعلها كانت البداية المبشرة لدعوة إلى صنع فكرة الدولة العربية الواحدة لتصبح رمزا لمرحلة الانتقال من الانفراط الطائفي والإثني الذي غذاه ونماه وحماه المهيمن العثماني ومن بعده الاستعمار الغربي، إلى التكامل القومي.
اشتركت في تشجيع انتشار فكرة الدولة العربية الواحدة أدوار كثيرة، فللكفاح من أجل الاستعمار والرغبة في تحرير البلاد وإقامة دولة بالمعنى الغربي للكلمة، أي الدولة ــ الأمة وليست دولة العشيرة، لجميعها دور. ولمصر الدولة والمؤسسات السيادية والخدمية دور باعتبارها النموذج على أهمية إقامة الدولة القطرية الوطنية كخطوة ضرورية لوضع أساس الفكرة القومية. رأينا في مراحل مبكرة تحمس قادة التيارات القومية في بلاد المشرق للعمل على استدراج مصر حكومة وشعبا للمشاركة في مسيرة الوحدة العربية. هناك أيضا دور لكثير من الشعوب التي وجدت في الفكرة القومية خلاصا محتملا من أخطار الطائفية وصراعات قادتها، وجدت فيها أيضا، كما وجدت في إقامة الدولة القطرية كخطوة متقدمة نحو التكامل القومي أو الدولة العربية الواحدة، الأمل في تجديد الحلم العربي الذى أثرته وعمقته ممارسات القهر التي مارسها الحكم العثماني ثم الغربي.
هكذا وبفضل جهود قيادات بعض أحزاب وحركات في دول المشرق العربي وأشخاص في مواقع حكومية وإعلامية وفي النخب الأكاديمية المصرية وقع الضغط الشعبى والرسمي في مواقع عربية متعددة على قوى الاحتلال الغربية وأعوانها من القيادات المحلية فكان خروج الاستعمار شهادة عملية على ما يمكن أن يحققه التنسيق العربي والعمل العربي المشترك. بمعنى آخر تحقق للفكرة العربية سند مشروع للانتقال من موقع إلى آخر. تحررت ليبيا وتونس والجزائر وجنوب اليمن والخليج والسودان. ومن إنجازاتها المبكرة منع بعض السياسيين من الاتفاق مع إسرائيل وتصفية قضية فلسطين. كانت الفكرة العربية الحائل الذى حال لمدة طويلة دون تسليم فلسطين في مرحلة مبكرة. ومن إنجازاتها المعتبرة نجاحها في استقطاب الثورة المصرية وإقناع قادتها بالقبول بها عنصرا رئيسا في أيديولوجية مصر وإن لمدد متقطعة، تتجدد بتجدد الأزمات المعقدة التي واكبت تطور أوضاع مصر الداخلية.
***
سواء أن الإنجليز هم الذين ركبوا الموجة، موجة صعود الفكرة العربية فقرروا مأسستها بدعمهم مشروع إقامة جامعة للدول العربية تضم الدول السبع المستقلة، أو أن تيار الفكرة العربية المتدفق تغلب على معارضة إنجلترا، وبالمناسبة لا يظهر في الوثائق ما يشير إلى اعتراض بريطاني يذكر. وفي النهاية على كل حال كانت محصلة وجود الجامعة وأنشطتها الدليل على حسن ظن وتقدير الإنجليز وخيبة أمل أنصار الفكرة العربية.
ثم بدأت الفكرة العربية طريق الانحسار.
لا إعادة فى التاريخ، ولا رأفة في ساحة العلاقات الدولية لدولة فرطت أو بددت، ولا مستقبل زاهر لأمة انهزمت وتعيش في انتظار يد أجنبية أو في الجوار تساعدها لتنهض من كبوتها. فاتتنا لحظة تاريخية لم نحسن قيادتها وفاتتنا فكرة لم نخلص في تبنيها
ومن العلامات الفاضحة لهذا الطريق ومسيرة الانحسار البغيضة؛
أولاً، التكالب الجديد من بعض الدول الكبرى ودول أخرى غير كبيرة على ثروات وسيادة عدد غير مسبوق من الدول العربية. المثير في هذه الظاهرة أن التكالب يحدث في جو من الوفاق والتشاور أحيانا وبخاصة بين روسيا وأمريكا من جهة أو بين روسيا وبقية دول الغرب من جهة ثانية. تظل ليبيا وسوريا الراهنتان من النماذج الملفتة للنظر.
ثانياً، بكل الثقة الممكنة في قراءة مستقبل العرب في غياب الفكرة العربية ها هي أمريكا تنسحب. تؤكد أمريكا بانسحاباتها المتتالية والمتنوعة أن الإقليم العربي لم يعد موقعا استراتيجيا له أهمية في خطط مستقبل الإمبراطورية الأمريكية خلال انحدارها وفي مقدمتها خطة الوجود المركز والكثيف في الشرق الأقصى لمواجهة الصين. أعتقد في الوقت نفسه أنها ربما اطمأنت إلى قدرة إسرائيل منفردة على حماية نفسها ومصالح أمريكا المنسحبة من المنطقة.
ثالثاً، قدرت أمريكا وربما تقديرا سليما أن اللحظة العربية، بمعنى قدرة العرب على التأثير المهم في السياسة الدولية، هذه اللحظة اقتربت من نهايتها أو لعلها انتهت.
رابعاً، صحيح أن الخلافات بين العرب لم تتوقف، والقليل منها جدا هو الذي استطاعت الجامعة العربية تسويته، أو منع توسعه ولكن الصحيح أيضا أن الخلافات اتسعت في الآونة الأخيرة وتعقدت بشكل قطعي فرص أن يكون للجامعة دور في تسوية النزاعات العربية. الأدهى على كل حال أن تتدخل دولة كبرى أو أكثر لتعميق نزاع أو تهدئة آخر. الخلاف المؤسف الكاشف عن نهاية اللحظة العربية وبالطبع فكرتها المؤسسة والحاكمة كان الخلاف داخل العائلة الخليجية، وهي العائلة المدينة ببعض وجودها للحظة العربية وقوة الدفع التي رافقت صعودها.
خامساً، تصادف، مع انحسار اللحظة العربية وخفوت صوت «العروبة» التى حوربت بأقصى درجات العنف وبأموال ضخمة، تصادف صعود دول قومية في الجوار واستتباب إسرائيل كقوة إقليمية يحسب حسابها. في الوقت نفسه مورست ضد كثير من الدول العربية سياسات وتدخلات غير صديقة أو ضغوط لا تحتملها ظروف دول عربية لم تعد تربط بينها رابطة الفكرة الواحدة، وفي الأصل وقفت هي نفسها بعناد ضد أي مشروع دفاعي عربي مشترك، وهي الآن تدفع برضا الدول غير النادمة ثمنا باهظا.
سادساً، نلاحظ إصرارا على الاستمرار في نبذ الفكرة العربية وبالتالي تسريع نهاية اللحظة العربية. المرعب للمفكر الملتزم هو ما يحدث الآن في بعض أقطار العرب التي انتقل بدرجات متفاوتة بعض مفاتيح سيادتها وقوتها إلى دولة أو أكثر من دول الجوار غير العربية، أعني تحديدا بالدول العربية التي فقدت أو سلمت أو المهددة الآن بهذا الخطر، أعني العراق وسوريا ولبنان. يحدث هذا وعيون دول عربية أخرى غافلة أو لم تعد تبصر، فاللحظة العربية راحلة والفكرة العربية غائبة في معظم الحالات أو مستترة في القليل النادر.
سابعاً، يبقى واضحا لكل عين من عيون المراقبين الأجانب أن العالم العربي على اتساعه لم تهدأ انفعالاته ولم يستقر حاله منذ نشبت أولى ثورات الربيع العربي في تونس قبل أكثر من عشر سنوات. قليلون ينتظرون هدوءا نسبيا في حال استمر فيروس كورونا يهاجم معاقل العرب بدون هوادة بينما كثيرون يتوقعون تصاعد الانفجارات الاجتماعية في الإقليم الذى تعوزه بوصلة ويفتقر إلى فكرة ويعيش خارج لحظة تخلى بنفسه عنها.
***
لا إعادة فى التاريخ، ولا رأفة في ساحة العلاقات الدولية لدولة فرطت أو بددت، ولا مستقبل زاهر لأمة انهزمت وتعيش في انتظار يد أجنبية أو في الجوار تساعدها لتنهض من كبوتها. فاتتنا لحظة تاريخية لم نحسن قيادتها وفاتتنا فكرة لم نخلص في تبنيها. الغريب أنني ما زلت رغم كل ما عانيت أتمسك بأمل نهوض جديد.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أما وأن جهنم الموعودة قد بلغناها
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  بيروت.. قصة موت مدينة