وتداركاً لمواصلة كبار المسؤولين التهرب من مواجهة الأسباب الحقيقية، فإن الأمور التي لا يمكن كشفها هي “كلام شفهي” من قبل شركة “توتال” بأنها “قد“ تكون مهتمة، بالبلوكين 8 و10، إذ أثبت الحفر في البلوك 9 وجود كميات تجارية.
ذلك يقود مباشرة إلى تناول الأسباب الحقيقية لامتناع الشركات، وهي وجود نزاعات حدودية على 6 من أصل 8 بلوكات معروضة للتلزيم، مع سوريا وإسرائيل وقبرص يضاف إليها تركيا لأن البلوكات المحاذية للمياه اللبنانية هي منطقة نزاع بينها وبين قبرص.
ومن المعروف ان الشركات الدولية لا تعمل في مناطق نزاعات. ونشير إلى أن البلوكين 8 و 10 هما موضع نزاع مع قبرص وإسرائيل. كما ان البلوكات 1 و2 و 3 و5 هي موضع نزاع مع سوريا وقبرص (راجع الرسم).
يضاف إلى ذلك سبب لا يقل أهمية، وهو انعدام ثقة الدول والشركات بالمنظومة السياسية والإدارية المسؤولة عن ملف النفط والترسيم. (هل يعرف أي لبناني من يدير هذا الملف؟)
أما الحقائق والمسؤوليات التي يتهرب من مواجهتها كبار المسؤولين وليس وزير الطاقة فقط، والتي تهدد بوأد الثروة النفطية في مهدها؛ فتتمثل في أن ترسيم الحدود مع قبرص وسوريا يشكل معضلة جيوسياسية لا تقل تعقيداً عن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وإذا كان الترسيم مع إسرائيل، قد تم في لحظة تقاطع معطيات ومتغيرات متعددة ومتشابكة، أطلق عليها الوزير ياسين جابر تعبير “اصطفاف كواكب”. فإن الترسيم مع سوريا وقبرص يتطلب اصطفافاً للكواكب، أكثر انتظاماً وأطول مدة، مع إضافة كوكبين جديدين هما الروسي والتركي.
الترسيم مع قبرص
بدون مبالغة، يمكن اعتبار الترسيم مع قبرص الأكثر تعقيداً. وقد يكون أصعب بكثير من الترسيم مع إسرائيل. لأنه يرتبط بالمسألة القبرصية وتقسيم الجزيرة إلى شطرين أو دولتين. ما يعني ان جوهر المشكلة هو مع تركيا وليس مع قبرص فقط. ومع أن جمهورية شمال قبرص لا تعترف بها أي دولة باستثناء تركيا. إلا أن الوضع القائم في المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية، يتسم بقدر كبير من التعقيد القانوني والجيوسياسي وربما العسكري، لأن البلوكات المحاذية للحدود اللبنانية هي موضع نزاع بين تركيا وجمهورية قبرص التركية مع «قبرص الرومية» كما يطلق عليها الأتراك. ويأتي هذا النزاع في سياق حرب شاملة تخوضها تركيا منذ سنوات طويلة لاستعادة ما تعتبره البحر التركي الذي حرمت منه لحوالي 100 عام بموجب اتفاقية لوزان 1923، وسيطرة اليونان على جزر بحر إيجه (راجع الرسم أعلاه).
وقد أعدت تركيا الميادين السياسية والقانونية والعسكرية لهذه الحرب. حيث سجلت اعتراضها على قيام جمهورية قبرص بترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة «من دون التشاور والتفاوض مع تركيا بإعتبارها شريكاً لا يمكن تجاهله» كما أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان. وقامت تركيا في العام 2011 بترسيم حدود منطقتها الاقتصادية وجرفها القاري من جانب واحد مقتطعة مساحات شاسعة من مياه قبرص واليونان. ما جعل هذه المناطق من ناحية قانونية وبحكم الأمر الواقع مناطق نزاع. وحصنت ذلك بتاريخ 21 سبتمبر/ايلول 2011 بإبرام اتفاقية مع جمهورية قبرص التركية لتحديد الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. وحرص الرئيس أردوغان على توقيع الاتفاقية بنفسه مع رئيس جمهورية شمال قبرص التركية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة لإضفاء “طابع قانوني دولي” عليها. وأعقب ذلك توقيع اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز (تقاسم إنتاج) في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، بين قبرص التركية وشركة البترول التركية.
لا يستقيم أي حديث عن مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع الأشقاء والأصدقاء والأعداء، قبل إجراء مفاوضات جدية بين أركان الحكم او الأصح بين القوى السياسية لتحديد مسألتين هما: “من يفاوض.. وعلى ماذا يفاوض”، وذلك بهدف تجنب تكرار الأخطاء والخطايا التي أرتكبت في ملف ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والمفاوضات مع إسرائيل
حماية الاتفاقية بالقوة العسكرية
لأن الاتفاقيات مع جمهورية شمال قبرص، تنقصها القوة القانونية بسبب وضعها الملتبس، فقد اندفعت تركيا إلى استخدام قوتها السياسية والعسكرية لحماية هذه الاتفاقيات. ولمنع جمهورية قبرص من القيام بعمليات استكشاف وانتاج في المناطق المتنازع عليها. وجاءت أخطر التطورات على لسان الرئيس أردوغان بتاريخ 20 أغسطس/آب 2019 في ذكرى احتلال شمال قبرص، بقوله: «الجيش التركي لن يتردد في تكرار الخطوة دفاعاً عن حقوق وأمن القبارصة الأتراك، ومن يعتقد أن جزيرة قبرص وثروات المنطقة تابعة له فقط فسيواجه حزم تركيا». وتمت ترجمة هذه التهديدات بأعمال عسكرية مباشرة، كان أخطرها قيام البحرية التركية في فبراير/شباط 2018، بمنع سفينة الحفر «سايبيم» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية من مباشرة عمليات الحفر في البلوك رقم 3 المحاذي للحدود اللبنانية. وأرسلت تركيا سفن المسح الزلزالي والحفر لتعمل في مختلف البلوكات المتنازع عليها.
ويبقى التطور الأبرز هو تبني مختلف القوى السياسية التركية “استراتيجية الوطن الأزرق” التي تستهدف زيادة مساحة المياه البحرية التركية إلى حوالي 462 ألف كلم2، وتكرس المنظور التركي لترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط. (راجع الرسم أعلاه). وأعاد الرئيس أردوغان التأكيد على تمسكه بهذه الاستراتيجية في خطاب تنصيبه رئيساً للجمهورية مؤخراً، بقوله “سندافع عن حقوقنا وحقوق إخواننا وأخواتنا في الوطن الأزرق بشكل أقوى”. وأضاف “لن نطأطئ الرأس للعربدة في جرفنا القاري بشرق المتوسط، ولن نخطو أي خطوة للوراء. تركيا على حق وفق قانون البحار والاتفاقيات المعمول بها، وستدافع عن هذا الحق بكل ما تملك”.
خيارات مرة أمام لبنان
هذا الوضع الذي يعرفه جيداً كبار المسؤولين اللبنانيين ويتجاهلونه، يضع لبنان أمام خيارين أحلاهما مر.
الأول؛ إبرام اتفاقية ترسيم الحدود مع جمهورية قبرص، والمخاطرة باستعداء تركيا. بما يحمله ذلك من تداعيات سياسية وطائفية داخلية خطيرة. وتداعيات أكثر خطورة تتعلق بالتحالفات الإقليمية والدور المركزي لتركيا. ولمن يستسهل هذه المشكلة، يجدر التذكير بأن مصر بكل قوتها ونفوذها الإقليمي، تعمدت عند توقيع اتفاقية ترسيم حدودها مع اليونان في أغسطس/آب 2020، ترك مساحة كبيرة تطالب بها تركيا بدون ترسيم، برغم حالة العداء والقطيعة بين الدولتين في ذلك الوقت.
كما يجدر التذكير بأن ذلك هو السبب في عدم مصادقة لبنان على مسودة اتفاقية ترسيم الحدود مع قبرص الموقعة عام 2007. وهو أيضاً السبب في عدم استجابة الحكومة الحالية لمطالبة قبرص بإحياء مفاوضات ترسيم الحدود، بعد توقيع اتفاقية الترسيم مع إسرائيل. ولذلك اكتفى الرئيس نجيب ميقاتي خلال زيارته الخاطفة إلى قبرص مؤخرا، بتهئنة الرئيس القبرصي، وتأكيد الاهتمام بقضية الترسيم، وقد اصطحب وفداً وزارياً موسعاً للإيحاء بجدية هذا الاهتمام، من دون أن تكون واضحة “الأبعاد السياسية والنفطية” ليضم الوفد وزراء البيئة والزراعة والسياحة والصناعة، وكلنا نعرف مدى علاقتهم بترسيم الحدود!
الثاني؛ الدخول في مفاوضات شاقة مع تركيا لتمرير الاتفاقية مع لبنان. وهو أمر يستدعي تضافر عاملين رئيسيين: الأول؛ يتعلق بالأوضاع الجيوسياسية في المنطقة. أي وجود تقاطع بين مواقف ومصالح القوى الكبرى وخاصة أميركا والاتحاد الأوروبي. والقوى الإقليمية مثل سوريا ومصر والسعودية وقطر ودولة الإمارات إضافة إلى إسرائيل وروسيا. وهو ما يبرر استخدام مصطلح «اصطفاف كواكب». العامل الثاني هو وجود تقاطع مواقف ومصالح بين القوى السياسية اللبنانية وتوافر توافق وطني عريض على مقاربة هذا الملف.
من يفاوض.. وعلى ماذا؟
وعند هذا الحد، لا يستقيم أي حديث عن مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع الأشقاء والأصدقاء والأعداء، قبل إجراء مفاوضات جدية بين أركان الحكم او الأصح بين القوى السياسية لتحديد مسألتين هما: “من يفاوض.. وعلى ماذا يفاوض”، وذلك بهدف تجنب تكرار الأخطاء والخطايا التي أرتكبت في ملف ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والمفاوضات مع إسرائيل حيث تبارى كبار المسؤولين في “رسم ومحو” الخطوط من 1 إلى 29.
وليتم قبل كل شيئ الاتفاق على الجهة المخولة بالتفاوض. وربما حان الوقت لتشكيل هيئة وطنية عليا برئاسة رئيس الجمهورية المخول دستورياً إبرام الاتفاقيات الدولية. وتضم في عضويتها الجهات الحكومية المعنية (مع مراعاة الانتماءات الطائفية والحزبية والسياسية طبعاً). مع تفويض الجيش اللبناني حصراً برسم الخطوط باعتباره الجهة المؤهلة والمنزهة. وليتولى المستوى السياسي مسؤولية اتخاذ القرار بتحديد سقوف المفاوضات صعوداً أو نزولاً.
وإلى أن يتم ذلك، ربما يكون الأجدى إلغاء دورة التراخيص الثانية، بدل التمديد المتكرر وانتظار “الأمور التي تبشر بالخير”.
الجزء الثاني من هذه المقالة:
- ترسيم الحدود مع سوريا: يتناول وجود منطقة متنازع عليها تقدر مساحتها بحوالي 750 كلم2. وتشابك العوامل السياسية مثل العلاقة الملتبسة بين سوريا ولبنان، العلاقة المتوترة بين سوريا وتركيا، ودخول روسيا على الخط، بعد فوز شركة “كابيتال” الروسية برخصة التنقيب في البلوك السوري الرقم 1 المحاذي للمياه اللبنانية.
- استكمال ترسيم الحدود الجنوبية: يتناول مشكلة البلوك 10 وخط الطفافات التي تم “ترحيلها” تسهيلاً لتوقيع اتفاقية الترسيم. ومشكلة البلوك 8 وتحديد النقطة الثلاثية بين لبنان وقبرص وإسرائيل. إضافة إلى معضلة احتمال وجود مكامن مشتركة مع إسرائيل.
(*) ينشر بالتزامن مع موقع طاقة الشرق