تصعيد تركي لاستباق الوقت: إدلب على رقعة الشطرنج الدولية

في الوقت الذي يتابع فيه الجيش السوري عملياته العسكرية في ريفي إدلب وحلب لاستعادة طريقي حلب – حماة وحلب-اللاذقية (M4 – M5) بعدما عرقلت تركيا فتحهما على مدار عامين كاملين، تبرز إلى السطح أزمة روسية – تركية متشعبة على امتداد المنطقة، الأمر الذي وضع إدلب في سراديب التشعبات الدولية، وحولها إلى جزء من صورة كبيرة من تضارب المصالح الروسية والتركية والأميركية.

بخطوات متسارعة، تتابع تركيا حشد جنودها على طول الشريط الحدودي مع إدلب، وفي قواعد لها داخل الأراضي السورية، أبرزها سراقب التي أرسلت تركيا إليها جنوداً ومعدات عسكرية ثقيلة، في محاولة لقطع الطريق على الجيش السوري، خصوصاً أنها تمثلّ عقدة مهمّة على طريقي حلب – حماة وحلب-اللاذقية الدوليين.

الجيش السوري التف على مدينة سراقب وتوغل في عمق إدلب ليسيطر على بلدة النيرب، ما أتاح له ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فهو من جهة حاصر النقاط التركية في المدينة التي دخلها في وقت لاحق، ومن جهة أخرى ضمنَ قطع طرق الامداد للمسلحين والإشراف على الطريقين معاً، بالإضافة إلى اقترابه من مدينة إدلب التي تبعد عن النيرب نحو تسعة كيلومترات ما أتاح له مروحة من الخيارات العسكرية المستقبلية، سواء التقدم أكثر نحو إدلب والحدود التركية، أو فتح معارك على طريق حلب – اللاذقية وتأمينه، بالتوازي مع عملياته في ريف حلب الجنوبي الغربي.

خلط تركي للأوراق

الجيش التركي حاول منع الجيش السوري من التقدم على محاور القتال مع المسلحين، الأمر الذي ردت عليه دمشق بقصف مدفعي أدى إلى مقتل ستة جنود أتراك، وإصابة آخرين، ليتابع طريقه، في وقت أعلنت فيه تركيا أنها ردت عبر قصف مواقع للجيش السوري، فيما اختارت التمهّل سياسياً قبل أن تخرج بتصريحات ذات نبرة مرتفعة، بعد اتصال هاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.

وبينما لم ترشح معلومات كثيرة حول حقيقة ما جاء في الاتصال بين الرئيسين، خرج إردوغان بتصريحات شديدة اللهجة في كلمة له أمام “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا ألقاها عقب اتصاله، هدد خلالها بعملية واسعة ضد الجيش السوري في حال لم ينسحب إلى مناطق خفض التصعيد المتفق عليها سابقاً ضمن بنود اتفاقية سوتشي الموقعة بين تركيا وروسيا العام 2018، مشيراً في الوقت ذاته إلى الدور الروسي في تقدم الجيش السوري في إدلب، ومعتبراً أن هجوم الجيش السوري يمثّل “حقبة جديدة”.

وتأتي عملية الجيش السوري بدعم روسي بعد نحو عامين على عدم وفاء تركيا بالتزاماتها، سواء لجهة حل الفصائل “الجهادية” وإبعادها عن مناطق “خفض التصعيد” أو فتح الطريقين الدوليين (M5 – M4) تحت إشراف تركي-روسي، وبعد فشل مفاوضات روسية تركية حول ليبيا، حيث أرسلت أنقرة جنوداً ومعدات وآلاف المقاتلين السوريين لمؤازرة حكومة “الوفاق” التي يرأسها فايز السراج الذي ينتمي إلى جماعة “الاخوان المسلمين”، في حين تؤازر موسكو الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، والذي يحظى بدعم مصري وسعودي.

وفي وقت اتخذ فيه الخلاف الروسي – التركي في ليبيا النفطية منحنى تصاعدياً، عمدت أنقرة إلى تصعيد التوتر في منطقة أخرى، حيث رفضت الاعتراف بضم القرم إلى روسيا، وقام الرئيس التركي بزيارة إلى أوكرانيا والمشاركة في النسخة الثامنة من اجتماع المجلس الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، حيث التقى نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي. كما قدمت تركيا مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة نحو 50 مليون دولار، ضمن مساعي تركيا زيادة حجم نفوذها شمالاً، في منطقة شهدت تاريخياً نزاعات وحروباً عديدة بين روسيا وتركيا.

وفي رسالة مباشرة وجهها إردوغان إلى روسيا، استهل زيارته إلى أوكرانيا بتحية حرس الشرف الأوكراني بجملة “تحيا أوكرانيا” المعروفة بأنها تحية مستخدمة في وسط القوميين المناهضين لروسيا.

“الشراكة” التركية – الروسية في سوريا باتت على المحك في ظل تداخل الأزمات بين البلدين في مناطق عدّة

ويأتي التصعيد التركي المتواصل مع روسيا بعد فترة وجيزة من افتتاح خط الغاز “السيل التركي” الذي يؤمن وصول الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، وبعد شراكة اقتصادية وسياسية اتخذت منحنى تصاعدياً بعد أزمة كبيرة بين البلدين العام 2015 إثر إسقاط أنقرة طائرة “سوخوي” روسيّة في الأجواء السورية، اعتذرت بعدها تركيا وتحولت العلاقة في سوريا إلى “الشراكة” التي يبدو أنها لن تطول كثيراً في ظل تداخل الأزمات بين البلدين في مناطق جغرافية عدة.

تدخل أميركي

منذ بدء الجيش السوري عملياته في إدلب، صعدت الولايات المتحدة من تصريحاها الرافضة لأي تقدم سوري في المنطقة التي تسيطر عليها الجماعات “الجهادية”، وسط أنباء عن نية أميركية بالتدخل مباشر في المنطقة. وقامت السفارة الأميركية في سوريا عبر حسابها على “توتير” بتغيير صورة الغلاف ووضعت اسم “إدلب” متشحاً بالسواد.

كما ندد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بما أسماه “استمرار الهجمات على إدلب”، معلنا أن بلاده ستقف مع تركيا “حليفتنا في حلف شمال الأطلسي في أعقاب الهجوم الذي أسفر عن مقتل عدة جنود أتراك يخدمون في موقع مراقبة يستخدم للتنسيق وخفض التصعيد، مضيفاً “نحن ندعم دعما كاملا تحركات تركيا المبررة للدفاع عن نفسها ردا على ذلك”.

إقرأ على موقع 180  الأكراد في دمشق برعاية روسية لقطع الطريق على أردوغان

بدوره، شدد المبعوث الأميركي الخاص بشأن سوريا جيمس جيفري على أن بلاده تشعر بالقلق حول إدلب، متهماً في الوقت ذاته روسيا بـ”انتهاك قواعد الاشتباك مع القوات الأميركية”، وفق تعبيره.

وتأتي التصريحات الأميركية في وقت تشهد فيه مناطق الشمال الشرقي من سوريا مناوشات روسية تركية شبه يومية، وسط محاولات واشنطن قطع الطريق على موسكو للتمدد في المنطقة الاستراتيجية الممتدة نحو كل من تركيا والعراق، بالتوازي مع الاضطرابات التي تواجهها القوات الأميركية في العراق وتفاقم أزمتها مع إيران إضافة إلى إصرارها على احكام سطرتها على المناطق النفطية في سوريا واستثمارها، وضمان طرق امداد بين قواتها المنتشرة.

إصرار سوري

وأمام هذا التصعيد التركي والأميركي، أصدرت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة في سوريا بياناً أكدت خلاله أن “الجيش ينفذ واجبه الوطني في الدفاع عن الأرض والقضاء على المجموعات الإرهابية المسلحة التي هاجمت ولا تزال السكان المدنيين في منطقة وقف التصعيد في إدلب”.

وشدد البيان على أن القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية، تؤكد أن “وجود القوات التركية غير قانوني، ويشكل عملاً عدائياً صارخاً، وأنها على أتم الاستعداد للرد الفوري على أي اعتداء من قبل القوات التركية والمسلحين ضد قواتنا العاملة في المنطقة”، مشيرة في الوقت ذاته إلى عدم رهان “الجماعات الإرهابية على دعم القوات التركية”.

بدورها، هاجمت وزارة الخارجية السورية الرئيس التركي اردوغان، ووصفته بالكاذب. ونقلت وكالة الأنباء السورية (سانا) عن مصدر في الخارجية ان دمشق “تستهجن إصرار رئيس النظام التركي أردوغان على الاستمرار بالكذب والتضليل إزاء سلوكياته في سورية وخاصة ادعاءه فيما يتعلق بدخول قواته إلى شمال حلب بموجب اتفاق أضنة لمكافحة الإرهاب”، موضحة أن “اتفاق أضنة يفرض التنسيق مع الحكومة السورية باعتباره اتفاقا بين دولتين وبالتالي لا يستطيع أردوغان وفق موجبات هذا الاتفاق التصرف بشكل منفرد”.

وأمام تعقيدات المشهد الدولي، ودخول إدلب في سراديب هذه التعقيدات، والتوتر الروسي التركي، تبدو الفرصة سانحة أمام الجيش السوري لتحقيق مكاسب ميدانية عديدة، خصوصاً أنه أثبت قدرته على السيطرة على أي منطقة كانت تسيطر عليها الجماعات المسلحة، حيث كان العامل السياسي يمثّل العقبة الأكبر، وهو ما يبدو جلياً من خلال سرعة سيطرته على مناطق شاسعة في عمق مناطق سيطرة الجماعات “الجهادية”.

رغم ذلك يبقى من الصعب التكهن بأية خطوات عسكرية لاحقة كونها مرهونة بالمستجدات السياسية على الساحة الدولية عموماً، وبين تركيا وروسيا على وجه الخصوص.

Print Friendly, PDF & Email
علاء حلبي

صحافي سوري

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  قمة طهران.. الشراكة الأوراسية تتفوق على بايدن