منذ آذار/مارس 2022، إعتمدت قوات الاحتلال تكتيكاً يقوم على توجيه عمليات مفاجئة ضد مراكز القوة الفلسطينية التي تتراكم في جنين ونابلس وطولكرم في الضفة الغربية، في أعقاب نجاحات فلسطينية ضد المستوطنين وجنود الإحتلال أدت إلى سقوط 11 قتيلاً إسرائيلياً. وأضحت عملية “كاسر الأمواج” العنوان الجديد يومها لإحباط العمليات الفلسطينية. وقامت القوات الخاصة الإسرائيلية بعمليات تسلل تحت جنح الظلام أو في الصباح الباكر وتحت غطاء شاحنات نقل مدنية إلى داخل عدد من المخيمات في الضفة، وتمكنت من تصفية عدد من المقاومين وأسر عدد آخر. وبقدر ما كانت هذه هذه الغارات مؤلمة للفلسطينيين، فقد بدت مُرضية للجانب الإسرائيلي الذي اعتقد أنه وجد الحل لتقليم أظافر الفلسطينيين (سياسة قص العشب).
الضفة مركز الصراع الجديد
وفي الحقيقة، فإن مركز الصراع العسكري الفلسطيني – الصهيوني إنتقل بشكل خاص بعد عملية سيف القدس في أيار/مايو 2021 من غزة الى الضفة الغربية، بالرغم من حصول جولات قتال متفرقة بين المقاومة في قطاع غزة وجيش الإحتلال. ونشبت هذه الجولات أساساً بسبب التطورات في القدس والضفة. وتبلور هدف مركزي لدى فصائل المقاومة يتمثل بتوجيه الجهود نحو تثوير الضفة ووضع غزة في حال استعداد لتقديم المساندة متى ما دعت الضرورة، وكانت الكلمة المفتاحية: تسليح الضفة. من هنا، بدأنا نسمع من خلال وسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير عن تهريب السلاح عبر الأردن الى الضفة، وعن اختفاء أسلحة من مستودعات جيش الإحتلال حيث تسرَّب بعضها الى أيدي رجال المقاومة الفلسطينية.
التخوف الإسرائيلي من إطالة مدة العملية العسكرية من دون وجود إنجاز يُعتدّ به. بدلاً من ذلك، قد يكون من الأجدى بالنسبة لجيش الإحتلال العودة لاحقاً إلى شن عمليات جديدة ضد الفلسطينيين بالإستناد إلى عامل المفاجأة، في إطار سياسة الباب الدوار: الإنسحاب الآن ثم العودة بقوة أكبر، بعد الوقوف على مكامن الدفاعات في مخيم جنين (الإستطلاع بالنار)
إضافة الى ذلك، جرى العمل على تطوير قدرات المقاومة لا سيما في مجال تصنيع العبوات الناسفة الضرورية لاستهداف الآليات الإسرائيلية المصفحة التي وفرت في ما مضى حماية أكيدة للجنود من رصاص المقاومين وعبوات بدائية تعرف بـ”الأكواع” وهي أسطوانات معبأة بمتفجرات محلية الصنع. ولا يُخفي الإسرائيلي هنا أن عقل المقاومة بذل جهوداً لقلب الوضع على قواته في الضفة الغربية من خلال نقل التجربة والخبرة والتسليح والتمويل إلى الساحة التي تُوجعه.
وكانت المفاجأة التي أصابت جيش الإحتلال في يوم 19 حزيران/يونيو، عندما تمكنت المقاومة في مخيم جنين من إعطاب آليات إسرائيلية مصفحة وإصابة سبعة جنود بداخلها بواسطة عبوات شديدة الإنفجار، وتحوَّل سحب الآليات المصابة إلى مغامرة استمرت ساعات عدة كادت تُهدّد حياة عدد آخر من الجنود. كما أصيبت مروحية عسكرية بأضرار كبيرة بنيران المقاومة. وكانت المرة الأولى منذ عام 2002 التي تشن فيها المروحيات الحربية الإسرائيلية غارة على هدف في الضفة الغربية. وانسحبت القوات المهاجمة من دون أن تُكمل مهمتها.
وقال مسؤول عسكري إسرائيلي في قيادة المنطقة الوسطى لموقع “واللا نيوز” إن طبيعة الكمين الذي أعده المقاتلون الفلسطينيون في جنين حيث جرى استهداف آلية “النمر” المُدَوْلبة كان “غير مألوف للغاية”، وأنّ العبوة المستخدمة “شبيهة بعبوات لبنان وغزة، وهذا تهديد كبير لقوات الجيش وتغيير في قواعد اللعبة”. وعلى الأثر، تقرر وقف استخدام مدرعات “النمر” وبدأت دراسة نوعية المركبات المدرعة التي يمكن أن تُستخدم لاحقاً في شمال الضفة”. واعتبر المحلل العسكري في صحيفة معاريف “تال ليف رام” أن جنين هي من أكثر مناطق الضفة التي تمر في مرحلة “لبننة” في ما يتعلق باستخدام العبوات، مشيراً إلى أن هذا التطور يُذكّر بالعبوات التي كانت تُستخدم ضد الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان.
ثم زاد المشهد الإسرائيلي ارتباكاً مع إطلاق صاروخ أو اثنين من جنين شمال الضفة باتجاه مستوطنة “رام أون” في 26 حزيران/يونيو، وهو تطور يعكس إصراراً على تحويل الضفة الى غزة أخرى. وعقد مراقبون مقارنة بين هذه التطورات وبدايات العمليات في غزة أيام الإحتلال في مطلع تسعينيات القرن الماضي وما رافقها من تطوير لقدرات المقاومة على صعيد إنتاج الصواريخ والعبوات الناسفة وصولاً الى تحرير القطاع في العام 2005.
وفي مؤشر على ارتفاع حجم التحدي الأمني، بدأ جيش الإحتلال اعتباراً من 21 حزيران/يونيو في استخدام الطائرات المسيّرة في مطاردة المقاومين الفلسطينيين في الضفة الغربية. وأدت إحداها في بلدة الجلمة شمال جنين إلى استشهاد ثلاثة مقاومين، بعد يوم واحد على مقتل أربعة مستوطنين في مستوطنة “عيلي” جنوب نابلس.
أهداف الهجوم الإسرائيلي
منذ ذلك الوقت، بدأ العدّ العكسي في انتظار عملية عسكرية كبيرة لجيش الإحتلال. فقد مسّت عملية 19 حزيران/يونيو بشكل خطير بقدرة الجيش الإسرائيلي على الحركة داخل العمق الفلسطيني الذي يحتضن معاقل للمقاومة في الضفة. وأصبحت عمليات التسلل الإسرائيلية تنطوي على مخاطر عالية في ضوء انكشاف تطور قدرات المقاومة التسليحية من جهة، ومراكمة خبرات الإنذار المبكر لديها في اكتشاف قوات الإحتلال التي تتسلل إلى المخيمات من جهة ثانية.
حشد العدو قوات كبيرة من الوحدات الخاصة (الكوماندوس، المظليون إلخ…) مدعومة بالطائرات المروحية والحربية والمُسيّرات ومجنزرات مطوَّرة تدخل ميدان عمليات الضفة للمرة الأولى منذ فترة طويلة وهي مُعدّة أساساً للقتال في الحروب التقليدية. وكان واضحاً أن جيش الإحتلال يريد استعادة الردع والقضاء على مجموعات المقاومة في مخيم جنين الذي أصبح رمزاً صاعداً للمقاومة في الضفة ومنطلقاً للعديد من العمليات التي تستهدف جيش العدو والمستوطنين على السواء. كما تم تشخيص هدف محدد وهو تفكيك ورش إعداد العبوات الناسفة.
لكن حسابات الحقل العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي لم تتطابق مع واقع البيدر الفلسطيني، فقد أعدّ المقاومون في مخيم جنين العدّة للقتال، وتمكنوا من تشكيل تهديد حقيقي للقوات المهاجمة التي كانت حريصة على عدم تسجيل إصابات خطيرة في صفوفها تحسباً من انعكاس ذلك نصراً جديداً للمقاومة الفلسطينية. في المقابل، عمد جيش الإحتلال إلى جرف شوارع في المخيم وإلحاق دمار ببناه التحتية في إطار “تدفيع” أهله الثمن عن احتضانهم للمقاومة بهدف دفعهم للتراجع عن موقفهم.
مسّت عملية 19 حزيران/يونيو بشكل خطير بقدرة الجيش الإسرائيلي على الحركة داخل العمق الفلسطيني الذي يحتضن معاقل للمقاومة في الضفة. وأصبحت عمليات التسلل الإسرائيلية تنطوي على مخاطر عالية في ضوء انكشاف تطور قدرات المقاومة التسليحية من جهة، ومراكمة خبرات الإنذار المبكر لديها في اكتشاف قوات الإحتلال التي تتسلل إلى المخيمات من جهة ثانية
لماذا الإنسحاب؟
جاء الإعلان عن انسحاب قوات الإحتلال من مخيم جنين ليل الثلثاء ـ الأربعاء الماضي بعد أقل من 48 ساعة على بدء اقتحامه، ليشير إلى المحاذير الأمنية الإسرائيلية من استمرار الهجوم، ويمكن تلخيص هذه المحاذير بالآتي:
أولاً؛ الخشية من وقوع خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي لا يُمكن تعويضها بالحديث عن قتل مطلوبين فلسطينيين أو تفجير معامل عبوات ناسفة. ومن شأن هكذا خسائر ليس فقط أن تلحق ضرراً بصورة الردع الإسرائيلي وترفع معنويات الفلسطينيين، بل ستنعكس على الإجماع الإسرائيلي الهش بشأن طريقة إدارة المواجهة مع المقاومة الفلسطينية. وبات الساسة الإسرائيليون أكثر حساسية تجاه هذه النقطة وأكثر ميلاً الى عمليات بصفر خسائر تقريباً، وهذا ينطبق على الحال مع قطاع غزة وعلى الضفة أيضاً.
ثانياً؛ التخوف الإسرائيلي من إطالة مدة العملية العسكرية من دون وجود إنجاز يُعتدّ به. بدلاً من ذلك، قد يكون من الأجدى بالنسبة لجيش الإحتلال العودة لاحقاً إلى شن عمليات جديدة ضد الفلسطينيين بالإستناد إلى عامل المفاجأة، في إطار سياسة الباب الدوار: الإنسحاب الآن ثم العودة بقوة أكبر، بعد الوقوف على مكامن الدفاعات في مخيم جنين (الإستطلاع بالنار).
ثالثاً؛ وجود تقديرات سياسية وأمنية تفيد بأن الإيغال في الضغط على الفلسطينيين سيؤدي الى التسريع في انهيار التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية وانضمام العديد من منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى المقاومة، ما يعني “اتساع الخرق على الراتق” الإسرائيلي.
رابعاً؛ التخوف من توسع نطاق المواجهة الى قطاع غزة وربما إلى جبهات أخرى، في ضوء الترابط المتزايد بين ما يحدث في الضفة والقدس وبقية الجبهات. وهذا يبدو من الحرص الإسرائيلي على التأكيد أن العملية مُصمّمة “ضد أهداف محددة” وستستمر 48 ساعة وليس أكثر، وأن الجيش الإسرائيلي “لا يُخطّط للبقاء في جنين”.
خامساً؛ وجود حسابات مختلفة داخل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي واضطرابات في المجتمع السياسي الإسرائيلي، الأمر الذي يُعقّد آلية القرار بشأن المدى الذي يمكن الذهاب اليه في أية عملية عسكرية. وقد أضحى جنود الإحتياط أقل حماسة لتأدية الخدمة العسكرية بسبب الأزمة السياسية المفتوحة.
في الخلاصة، يُشكل إنسحاب قوات الإحتلال من مخيم جنين بدون تحقيق مكسب عسكري واضح انتصاراً للمقاومة التي صمدت بداخله وقاتلت برغم التفاوت في الإمكانيات، وهذا سيضيف حافزاً معنوياً كبيراً لتمدد نموذج المقاومة في الضفة ويساعد في تثبيت انقلاب المعادلة على الإحتلال.