الوالدان والأولاد.. والأثمان النفسية للأزمة الإقتصادية

بين تكاليف الحياة الأساسية ومحاولة التأقلم مع التغيرات الاقتصادية أصبح السعي وراء لقمة العيش الشغل الشاغل للكثيرين من اللبنانيين، فنرى الأهل يخرجون معاً إلى العمل بدوام صباحي أو مسائي؛ الأب يعمل في أكثر من وظيفة.. والأم كذلك.

تَندُر الدراسات العربية التي تتناول التأثيرات النفسية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية، بينما تفيد العديد من الدراسات العالمية أنّ معدلات الفقر المرتفعة تزيد من معدلات الصراع الأسري ومن إهمال الأطفال وإساءة معاملتهم والعنف الزوجي.[1]

يُسلّط تقرير جديد صادر عن “اليونيسيف” بعنوان “الطفولة المحرومة” الضوء على أن الأسر اللبنانية والسورية والفلسطينية في جميع أنحاء لبنان قد وقعت في براثن الفقر، حيث تبين أن 36٪ من مقدمي الرعاية يشعرون بأنهم أقل تسامحاً مع أطفالهم ويعاملونهم بقسوة أكبر، مما أثر بشدة على صحة الأطفال ورفاهيتهم وتعليمهم وأدى الى انهيار العلاقات الأسرية.[2]

يؤكد الدكتور مصطفى حجازي أنّ أحد أهم المقومات التي تلعب دورها في سواء او عدم سواء التفاعلات الأسرية هو المقوم الاقتصادي ومن المعروف أن عدم توافر مصادر دخل كافية والبطالة والأزمات الاقتصادية تُفجّر الصراعات داخل الأسرة وتُهدّد تماسكها.[3]

فيروز أم لطفلة واحدة، زوجها يعمل في السلك العسكري، تقول إنّها تعمل في مؤسستين وتبقي ابنتها مع جدتها حتى تعود من عملها في الساعة السابعة مساءً وبالتالي عندما تصل فيروز الى البيت تكون ابنتها نائمة.

هذا الوضع الذي أجبر فيروز على العمل، صعّب العلاقة مع زوجها، وسيطر الجو السلبي واليأس على الأسرة؛ فالزوج يعجز عن تأمين الأساسيات، والطفلة محرومة من عاطفة الأم، والأم تشعر بالذنب والتوتر. تبكي فيروز وتقول: عندما اذهب الى العمل في الصباح، تقول لي ابنتي “أنتِ لا تحبيني، أريدك أن تبقي معي”.

حال فيروز يشبه حال شيرين التي يعمل زوجها في شركة إعلانات، وتبقي ابنها مع جدته المتقدمة بالعمر والتي تعاني من مشكلة في السمع ما يُعرّض طفلها للمخاطر، لكنها مجبورة أن تخرج إلى العمل من الثامنة صباحاً إلى السادسة مساءً.

على الرغم من أن نظرية فريدا فروم حول الأم المنجبة للفصام schizophrenogenic mother، “وهي الأم زائدة الحماية وفي نفس الوقت عداونية ومسيطرة”، لم تعد مقبولة في وقتنا الحالي لأنها تلقي اللوم على الأم فقط في التسبب بالمرض النفسي لأطفالها، إلاّ أنّ هذه النظرية تتناسب مع الواقع اللبناني لسببين:

أولهما؛ لأن الأم هي الأكثر احتكاكاً مع أطفالها حيث لا يزال تقسيم الأدوار التقليدي في مجتمعنا، يضع على الأم مسؤولية متابعة التفاصيل اليومية للأسرة ويُحدّد دور الأب بالمسؤولية المالية لتأمين نفقات الحياة الأساسية.[4]

ثانيهما؛ هجرة الكثير من الأباء بسبب خسارتهم وظائفهم في لبنان أو تردي أوضاعهم المالية، تاركين وراءهم عائلات تعتمد على الأم بشكل كليّ ما يؤدي إلى تماهي الأطفال مع نموذج وحيد يُمثّل السلطة، الأمر الذي قد يخلق مناخاً أسرياً غير سوي.

حسب نظرية المحلل النفسي الأميركي ناثان أكرمان فإن المناخ غير السوي ينطوي على نمط من العلاقات الأسرية الضارّة حيث يلبي الوالدان حاجات الأطفال تحت عنوان التضحية والتفاني ما يؤدي إلى شعور الأبناء بالذنب والقلق والخوف. في المقابل، تتنظر الأم التقدير من أطفالها أو زوجها وعندما لا تجد ضالتها، فإنها تصاب بالخيبة والإحباط

بحسب الجمعية الأميركية لعلم النفس فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة تؤثّر بشكل عميق على الأطفال والشباب والأسر وتظهر آثارها في داخل الأسرة النواة، فالضغوطات مثل فقدان الوظيفة أو حبس الرهن أو فقدان مدخرات الأسرة تسبب خللاً في العلاقات الأبوية.[5] يربط علم النفس الأسري بين ظهور الكثير من الأمراض النفسية والمناخ الأسري ويعتبر أنّ الفرد المضطرب نفسياً يعكس وجود خلل في مناخ الأسرة.

زينة أم لثلاثة أطفال؛ زوجها خسر عمله ويجلس في البيت، حالته النفسية سيئة جدا، تقول زينة: “دائما الجو يكون متوتراً. ابنتي الصغيرة تأثرت بالوضع، لجأنا إلى أخصائية نفسية (مستوصف محلي) ولكن وقت الجلسات قصير جداً ولا نجد الكثير من التحسّن”.

يمكن للوالدين ومقدمي الرعاية اتخاذ خطوات لتقوية الروابط مع أطفالهم والتعرف على علامات التحذير التي تشير إلى أن طفلهم قد يعاني من مشاكل في الصحة العقلية[6]، ولكن الحصول على الخدمات النفسية صعب جداً بسبب عدم قدرة الشريحة المتوسطة على تغطية نفقات المعالجين النفسيين التي تترواح بين 25 دولاراً و50 دولاراً للجلسة الواحدة، ومعاينة الطبيب النفسي التي تترواح بين 50 دولاراً و75 دولاراً.

وبحسب دراسة بعنوان “الصحة النفسية في لبنان” صدرت في العام 2015 فإن الغالبية العظمى من اللبنانيين الذين يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة لا يبحثون أصلاً عن المساعدة أو العلاج بسبب انخفاض الوعي بهذه الاضطرابات، بجانب عوائق أخرى (مثل العجز المالي، ونقص الموارد والوصم الاجتماعي)[7].

ولهذا السبب تقول رشا “الآلام التي لا تظهر للعيان يمكن تأجيلها وفي المستقبل عندما تتزوج ابنتي يمكنها أن تفعل ما تريد، إذا عرفت العائلة أننا نذهب إلى معالج نفسي، سيشعرون بالشفقة نحوها ولن يرغب أحد في الزواج من مريضة نفسياً”.

إقرأ على موقع 180  وسام.. عاشق القاهرة

حسب نظرية المحلل النفسي الأميركي ناثان أكرمان الذي اهتم بدراسة النسق الأسري فإن المناخ غير السوي ينطوي على نمط من العلاقات الأسرية الضارّة حيث يلبي الوالدان حاجات الأطفال تحت عنوان التضحية والتفاني ما يؤدي إلى شعور الأبناء بالذنب والقلق والخوف. في المقابل، تتنظر الأم التقدير من أطفالها أو زوجها وعندما لا تجد ضالتها، فإنها تصاب بالخيبة والإحباط، وتدخل في دوامة حزن قد تتسع لتبلغ حد الإكتئاب والإضطراب النفسي.

فقدت سامية، وهي أم لأربعة أولاد، السيطرة على نفسها وبسبب الضغط اليومي الذي تواجهه لتأمين الأساسيات كالطعام والدواء والثياب تقول: أصبحت عصبية جداً مع الأولاد، وبسبب السوشيل ميديا دائماً يقارنون أنفسهم مع الآخرين خصوصاً ان هناك طبقة اجتماعية لم تتأثر بالأزمة، ولاحقاً عرفت أنّ أطفالي يقومون ببيع الألعاب القديمة لأصدقائهم في المدرسة”!

تتوقف وفاء عند ظاهرة عدم مواكبة الأهل لأولادهم خصوصاً المراهقين، وتقول: صار أولادي مهجوسين بالواقع المعيشي الصعب. يريدون أن يأتوا بالمال بأي طريقة. مثلاً يفتحون “لايف” (live) على “تيكتوك” للحصول على دولارين وهذه التصرفات أحياناً لا يعرف بها الأهل بسبب انشغالاتهم، ما يُعرّض أولادهم للاستغلال والوقوع في المخاطر.

هذه التغييرات تترك آثاراً عميقة ودائمة على الصحة العقلية للأطفال والشباب، وغالبًا ما تسبب مشاكل من نوع القلق وتدني احترام الذات وغير ذلك من الصعوبات العاطفية السلوكية.[8] وما تفرضه الأزمة من تحديات ستترك آثارها على الأجيال الحالية وعلى مستوى صحتهم النفسية التي ستؤثر بالتأكيد على التفاعلات الاجتماعية في المستقبل.

[1] What the Economic Downturn Means for Children, Youth and Families,2009

https://www.apa.org/pi/families/resources/economy

[2] A new report and research by UNICEF shows the dire reality for children in Lebanon

UNICEF Lebanon, 25 August 2022.

 https://www.unicef.org/lebanon/stories/children-lebanon-lose-hope-economic-crisis-hinders-families-providing-basic-needs

[3] حجازي، مصطفى، الأسرة وصحتها النفسية، المقومات –الديناميات- العمليات، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2015، ص49

[4] تجدر الإشارة إلى وجود تفاوتات في أداء هذه الأدوار في المجتمع الشرقي، ولكن تقلّ الدراسات التي تتناول التغييرات الجديدة في الأدوار الجندرية.

[5] What the Economic Downturn Means for Children, Youth and Families, https://www.apa.org/pi/families/resources/economy

[6] Family Connectedness is Key to Children’s Mental Health, May 27, 2021

https://www.stopbullying.gov/blog/2021/05/27/family-connectedness-key-childrens-mental-health

[7] فرح يحيى وفادي الجردلي”تطبيق أدوات ترجمة المعرفة لتوجيه السياسة: حالة الصحة النفسية في لبنان”. سياسة وأنظمة البحوث الصحية 1-11-2015. 

[8] What the Economic Downturn Means for Children, Youth and Families,2009

https://www.apa.org/pi/families/resources/economy

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  بيّون لـ 180: تركيا تبسط نفوذها القومي لا الديني