لدى المتقاعدين من الدبلوماسيين العرب ما يستحق أن يُروى

بحكم التقدم في السن وفي الخبرة وتنوع الاهتمامات صرت أجالس من المتقاعدين في كل مجال نسبة أكبر إذا قورنوا بغيرهم من فئة المعارف والأصدقاء.

بحكم العناصر نفسها مضافاً إليها عنصر اهتمام مشترك، لاحظت أن لمتقاعدي العمل الدبلوماسي النصيب الأكبر بين من أجالس باختياري أو اختيار آخرين. أقصد بالدبلوماسي المتقاعد الشخص الذي ترك الخدمة الدبلوماسية بوصوله إلى سن التقاعد وليس كل من حاز على نصيب من الخبرة في قواعد وأصول السياسة الخارجية وليس كل من امتهن نشاطا أطلق عليه صفة الدبلوماسي. من الأنشطة الأخرى المحسوبة على الدبلوماسية، وهي ليست كذلك، العمل الأكاديمي بحثا أو تدريسا والانخراط في منظومة المؤسسات الدولية الإقليمية والكتابة والقراءة المنتظمة والمتعمقة في أدبيات السياسة الخارجية بفروعها المتعددة.

محسوبة أيضا أجهزة في الدولة دأبـت على تقليص المساحة الأصلية التي كانت من نصيب الجهاز المكلف بإدارة الشئون الخارجية. شيء من هذا التقليص حدث متدرجا في تطور العلاقة بين وزارة الخارجية البريطانية وأجهزة العمل السري التي اشتغلت في حماية أمن واتساع أطراف الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن الشمس تغرب عنها، وأظن أن الشمس نفسها تعود الآن بعد غياب نصف قرن أو أكثر، أي منذ الانسحاب الكبير من شرق السويس، تعود لتشارك بخبرتها التاريخية في عملية جارية الآن بالتخطيط أو التنسيق بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا المتحمسة ونيوزيلاندا المترددة لإنقاذ ما تبقى من آخر إمبراطورية أنجلو سكسونية.

لا يدرك هؤلاء أن أكثر ما احتفظ به الكاتب من معلومات تعامل معها كأسرار لا يجوز نشرها هي بعيدة كل البعد عن كونها تستحق هذه الصفة فضلا عن أن الغالبية العظمى من المعلومات غير العسكرية في كافة الشئون وليس فقط في شأن الدبلوماسية صارت أسرارا معلنة ومنشورة بتفاصيل مذهلة

ينصبُّ اهتمامي هنا على المتقاعدين في خدمة العمل الدبلوماسي الرسمي، ففي ظني وجل اهتمامي أنهم ثروة أهملتها حكومات مصرية وعربية تعاقبت خلال معظم سنوات القرن الأخير وأعتقد أننا ندفع الآن من استقرار وأبعاد نفوذنا الإقليمي والدولي ثمنا باهظا لهذا الإهمال.

***

أذكر أنني قبل سنوات عديدة دخلت في حوار مفيد مع شخصية جليلة تولت مناصب هامة للغاية في قيادة العمل الدبلوماسي المصري. اتصل الحوار بمذكرات سجّلها في كتاب نشرته له دار نشر كبرى. اتصل الحوار أيضا بعرض نقدي لهذه المذكرات كتبته ونشرته لي دورية عربية متميزة. كان عاتبا في تعليقه على ما كتبت. قال ما معناه أنني يجب ألا انتظر من مسئول كبير أن يكتب في مذكراته تفاصيل أحداث ولقاءات أجراها واجتماعات أدارها وخفايا سياسات وأدوات من خارج الدبلوماسية استخدمها لتحقيق أهداف الدولة ومصالحها. حجته أن العمل الرسمي سر من أسرار الدولة ولا يجوز البوح به أو إعلانه في وقته أو خارج وقته مهما طال الزمن. حجتي تلخصت في أن المذكرات لم تقدّم للقارئ العادي ما يُشجّعه على مواصلة القراءة حتى آخر صفحة في الكتاب. أما القارئ المتخصص، وأقصد الموظف الدبلوماسي، فلن يجد في المذكرات ما يمكن أن يمثل إضافة إلى مخزون معلوماته عن إدارة مهام السياسة الدولية ولا هي تقدم درسا أو دروسا في صنع القرار في السياسة الخارجية، ولا هي تملأ فراغا في بحث يجريه باحث انشغل بدراسة عملية صنع السياسة الخارجية وأدوات تنفيذها. ولا هي تغني باحثا آخر مهتماً بإجراء المقارنات الضرورية بين دبلوماسيات متعددة ومختلفة بغية المساهمة في التوصل إلى نظرية عامة في علم العلاقات الدولية واستراتيجيات الأمن والسلم الدوليين. لم أعد أتساءل بعد الحوار عن أسباب ودوافع اتجاه مختلف الدبلوماسيين والمعلقين الأجانب إلى قراءة مذكرات هنري كيسنجر وجورج كينان وونستون تشرشل وأمثالهم وترددهم في أو امتناعهم عن قراءة مذكرات أقران هؤلاء من الرسل والسفراء والوزراء والمبعوثين الرسميين وصناع السياسة في مصر والعالم العربي.

***

عودني القارئ المدرب على قراءة مذكرات بعض كبار المسئولين على أنه يقرأها باحثا عما أخفاه كاتب المذكرات بين السطور أو احتفظ به لنفسه حماية له من غدر غادر وشر كاره أو منافس أو تنفيذا لقواعد انضباط نشأ عليها وصعد بفضلها إلى أعلى المناصب. يعلم هذا القارئ المدرب أن المسئول السابق وقد صار متقاعدا غالبا ما ينتهي من كتابة ونشر مذكراته مطمئنا إلى أن القارئ المدرب لا شك يدرك أن ما خفي عنه في المذكرات أعظم وربما كان هو نفسه شاهدا حيا على بعض مراحلها. فهمت من أحاديث أجريتها مع أكثر من مسئول قضى بعض عمره مكلفا بمسئوليات دبلوماسية، وهو ليس من أهلها، أن كاتب المذكرات لا بد أن يحسب لاعتبارات الجاه والمكانة حسابات منفصلة. لمح أحدهم إلى فكرة لا تغيب عن ذهنه أثناء الكتابة وهي أنه سوف يحصل من القادة الأكبر والأقدم في تراتيب القيادة على تقدير متناسب مع حجم ما أخفاه من معلومات في مذكراته وليس مع حجم ما أعلن من أسرار وكشف من خفايا وشرح من غموض. لا يدرك هؤلاء أن أكثر ما احتفظ به الكاتب من معلومات تعامل معها كأسرار لا يجوز نشرها هي بعيدة كل البعد عن كونها تستحق هذه الصفة فضلا عن أن الغالبية العظمى من المعلومات غير العسكرية في كافة الشئون وليس فقط في شأن الدبلوماسية صارت أسرارا معلنة ومنشورة بتفاصيل مذهلة. ودليل ذلك، ولأسباب أخرى، يتعامل عامة الناس مع أعضاء النخب من صناع السياسة، كما يتعاملون مع نخبة نجوم الفن والسينما، باعتبارهم موضوعات إعلامية دسمة بحساب ما أخفوه من حكايات ومشاكل وأزمات كانوا أطرافا فيها أو شهودا عليها.

لم نقرأ حتى يومنا هذا مذكرات تكشف من واقع المعايشة والمشاركة الفعلية بعض حقائق عن أخطاء ونقائص في أداء السياسات الخارجية العربية أوصلتنا إلى الحال الراهنة بين أحوال الأمم

أمامنا النموذج في المجتمع السياسي الأمريكي الذي يعيش اليوم متفرجا على تداعيات هذا الصراع الأبدي على الأسرار في آخر إصداراته، أقصد السباق الإعلامي الراهن في الولايات المتحدة للحصول على مضمون ما أخفاه أو حاول إخفاءه الرئيس السابق دونالد ترامب من وثائق رسمية ومعلومات عن مؤامراته ضد نظام الدولة وما أخفاه أو يحاول أن يخفيه الرئيس جو بايدن من تفاصيل فساد واسع النطاق داخل عائلته وتسريب معلومات رسمية سرية الطابع. هذا المجتمع غريب الأطوار صار فريسة سهلة للاستقطاب الحاد، نصفه ينحاز لجانب الشيطان في أي قضية تطرح عليه ونصفه الآخر ينحاز لجانب الملائكة ولو لبرهة قصيرة. بالصدفة المحضة نعيش هذه اللحظة مع آخر استقطاب أمريكي حول ما يكشفه ببراعة متناهية مخرج الفيلم السينمائي عن قصة “أوبنهايمر”، صانع القنبلة الذرية، وعن حروب الأسرار بين قوى وأقطاب الدولة الأعمق في أمريكا. الأمر الأشد غرابة في هذا الاستطراد هو حالة الاستقطاب حول هذا الفيلم في المجتمع السياسي المصري. فمن حيث الشكل تبدو القضية لا تمس جانبا من تاريخنا ولكن من حيث المضمون يغوص موضوعها حتى الأعماق في تفاصيل نخشى تداعياتها على حياتنا، تفاصيل عن حروب الأسرار التي تنشب في عالمنا العميق بين قوى لا نعرفها أو نعرف عنها القليل غير المفيد، وتفاصيل عن حروب وإن مكتومة الصوت إلا أنها باهظة التكلفة طويلة الأجل.

إقرأ على موقع 180  أسرى "الطوفان" والغزو البري.. مَنْ يسبق مَنْ؟

***

لدى أكثر المتقاعدين من الدبلوماسيين المصريين وغيرهم من الدبلوماسيين العرب ما يستحق أن يُروى. أتمنى أن أراهم وقد أقدموا الواحد بعد الآخر والواحدة بعد الأخرى على كتابة مذكرات عن حيواتهم وحيواتهن في هذه المهنة التي لم تحصل بعد على حقها وعن دورها في عالم السياسة الخارجية المصرية. لم نقرأ حتى يومنا هذا مذكرات تكشف من واقع المعايشة والمشاركة الفعلية بعض حقائق عن أخطاء ونقائص في أداء السياسات الخارجية العربية أوصلتنا إلى الحال الراهنة بين أحوال الأمم. قد نجد في ما سوف يكتبه المتقاعدون من الدبلوماسيين العرب والمصريين بشكل خاص تعويضا عن قصور في ما سجله الأسبقون في مذكرات أكثرها صدرت مكتومة الصوت والرأي والمعلومة. ثم أننا ونحن نقرأ ما يكتبون سوف نتعلم، وسوف يتعلم معنا جيل الدبلوماسيين الناشئين، عن بعض أو كل ما استجد في الشئون الدولية التي صارت مختلفة في الجوهر وفي الأداء عن شئون دولية درسناها في الكتب وقاعات المحاضرات أو تعاملنا معها في مختلف الظروف والمؤتمرات والعواصم.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  أخطر 75 يوماً في عهد بايدن