

الاستهداف الإسرائيلي لإيران وفّر لفرنسا ذريعةً للخروج من مأزقها. إذ يتفق عديد المراقبين على أن «مؤتمر نيويورك يُنذر بفشل ديبلوماسي رهيب». الفشل زيّن هذه المبادرة منذ انطلاقتها. بالطبع، لم يستشر ماكرون أياً من خبراء ملف الشرق الأوسط في وزارة الخارجية (الكي دورسيه). جُلّ هم الرجل تغطية فشله في لجم اندفاعة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في غزة بعد كسر اتفاق وقف إطلاق النار واستعمال الغذاء سلاحاً ضد العُزل في غزة.
ما أن انطلقت مبادرة «حل الدولتين» حتى هاجمتها كل الطبقة السياسية في تل أبيب وانعكست توتراً في المجتمع الفرنسي المنقسم على نفسه. وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس توجه إلى ماكرون بقوله «أقمْ دولة على الورق. نحن نقيم دولة على الأرض»، مُشيراً إلى الضفة الغربية التي تتآكل المساحة المتبقية للفلسطينيين فيها تحت وطأة هجمات المستوطنين.
ولكن باريس استوعبت هذه الانتقادات بتغليف المبادرة بشروط يراها المراقبون «تعجيزية غير قابلة للتحقيق»: إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، إدخال الأغذية إلى غزة، إيلاء مهمة إدارة قطاع غزة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، إبعاد حركة حماس بعد تسليم سلاحها وفتح الباب أمام مفاوضات تبدأ بإعلان الاعتراف بإسرائيل من قبل الدول العربية تمهيداً للوصول إلى ما يُسمى “حل الدولتين”.
صحيح أن ماكرون نأى بنفسه عن الدفع نحو المواجهة العسكرية بين تل أبيب وطهران، إلا أنه منح السلطات الإسرائيلية تفويضًا مطلقًا. وعلّق على ما يجري قائلاً: «عندما أنظر إلى نتائج هذه الضربات، أجد أنها قلّصت قدرات التخصيب. لقد قلّصت أيضًا القدرات الباليستية الإيرانية»
وبطبيعة الحال يتم سرد هذه الشروط بتسلسل مختلف حسب المتحدث وحسب المستمع وهو ما يُضحك المتابعين من خبراء إلى ديبلوماسيين مروراً بالمعلقين في القنوات ناهيك عن التعليقات في مواقع التواصل. لماذا يحصل ذلك؟
لأن باريس فشلت في إقناع السعودية ومعظم العالم الإسلامي بوضع خطة لتطبيع العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل مقابل الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين. انتزاع هذه المبادرة من الرياض صارت بمثابة “مبادرة خيالية” في وقتٍ يرى العالم أن قطاع غزة بات حقلاً من الأنقاض والمجاعة والدمار والموت في ظل القصف الاسرائيلي الذي لا يهدأ دقيقة واحدة. في حين أن الضفة الغربية باتت مجموعة بانتوستان (Bantustan) تُفرّق بينها المستوطنات اليهودية.
اعتقد ماكرون أن فرنسا قادرة على قيادة المملكة المتحدة واليابان ودول أوروبية أخرى للاعتراف بدولة فلسطين، في حال توفرت هذه الشروط بعد تحويل المبادرة إلى «خارطة طريق»، مقترحةً ما يُسمى بصيغة «تدريجية» اعتقدت باريس أنها ترسم مسارًا لتحقيق هذا الاعتراف، وهو ما جعل أحد مؤيدي إسرائيل يُردّد أنها «مجموعة هرطقات يُطلِقها من لا مستقبل سياسياً له»، في إشارة إلى نهاية ولاية الرئيس الفرنسي الثانية.
لم يلتفت نتنياهو إلى هذه الشبكة الديبلوماسية المثقوبة بابتعاد السعودية من جهة وحرب الإبادة من جهة ثانية. لذا، فضّل مهاجمة «أحب الأعداء» إليه، أي إيران.
نتنياهو كان واثقاً بأن إطلاق أول موجة صواريخ نحو إيران «ستُذيب» جليد هذه المبادرة وسيقف وراء تل أبيب كل من طمع ماكرون، دولياً، بالتحاقه بـ«قافلة حل الدولتين»، وفي مقدمة هؤلاء فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بذريعة «حق اسرائيل بالدفاع عن نفسها في مواجهة التهديد الوجودي الذي يُشكّله، حسب قولها، امتلاك إيران أسلحة نووية»؛ برغم أن هذه الدول الأوروبية الثلاث وقّعت في العام 2015 إلى جانب إيران والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والصين، على الاتفاق الهادف إلى الحد من توسع البرنامج النووي الإيراني، الذي انسحب منه ترامب في العام 2018.
وبرغم أن الترويكا الأوروبية (باريس ولندن وبرلين) تبلغت مسبقاً بقرار الضربة العسكرية الإسرائيلية لإيران وبتوقيتها، كان لافتاً للانتباه كيف أن قادة كلٍ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا اتصلوا بنتنياهو تعبيراً عن “تضامنهم” معه برغم التدهور الملحوظ، على الأقل بالنسبة للقادة الفرنسيين والبريطانيين، في علاقتهم مع رئيس وزراء إسرائيل خلال الحرب على قطاع غزة.
صحيح أن ماكرون نأى بنفسه عن الدفع نحو المواجهة العسكرية بين تل أبيب وطهران، إلا أنه منح السلطات الإسرائيلية تفويضًا مطلقًا. وعلّق على ما يجري قائلاً: «عندما أنظر إلى نتائج هذه الضربات، أجد أنها قلّصت قدرات التخصيب. لقد قلّصت أيضًا القدرات الباليستية الإيرانية». واستطرد أن فرنسا «لم تشارك» في الهجوم، وأنها «لا تتفق مع هذا النهج أو الحاجة إلى عملية عسكرية». ولكنه لم يتردد في التأكيد أن ضربات إسرائيل كانت لها آثار “تتماشى مع الاتجاه المنشود» في منع إيران من امتلاك أسلحة نووية أو على الأقل في عرقلة هذه الجهود.
في الخلاصة، نجحت إسرائيل في اختيار توقيتها وفرض “أجندتها”، برغم مسرحية الخلاف الإسرائيلي الأميركي حول الملف الإيراني.. والأهم من ذلك تطيير مؤتمر “حل الدولتين” الذي كان أيضاً مجرد مسرحية فولكلورية وظيفتها التهيئة للمزيد من ابرام الاتفاقات الأبراهيمية.