بوتين وأردوغان.. المساكنة تهتز!

كانت روزنامة مواعيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخارجية، تتضمن زيارة إلى تركيا في 15 آب/أغسطس الماضي، غير أن سلسلة من التطورات بينها مواقف مستجدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أزعجت بوتين وأثارت حفيظته، فقرر إلغاء زيارته إلى أنقرة.

موافقة تركيا على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي المجند بكل إمكاناته مع أوكرانيا ضد روسيا، كانت صادمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والأنكى من ذلك، تسليم أردوغان قادة كتيبة “أزوف” الأسرى إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، الأمر الذي خالف كل تعهداته للقيادة الروسية. غير أن ما يواجهه الرئيس التركي من أزمات على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي في الداخل التركي دفعه إلى طلب عقد اجتماع قمة مع بوتين.

 في الرابع من أيلول/سبتمبر 2023، وصل الرئيس التركي إلى مقر الرئيس الروسي الصيفي في سوتشي على البحر الأسود، يرافقه وزراء الخارجية والدفاع والتجارة ورئيس البنك المركزي التركي. وعقب قمة ثنائية بين الرئيسين، ومفاوضات موسّعة بين وفدي البلدين، عقد الرئيسان بوتين وأردوغان مؤتمراً صحفياً مشتركاً، أظهرت وقائعه أن المفاوضات كانت عبارة عن تبادل وجهات نظر حول قضايا راهنة في أكثر من ميدان ومجال، ولم تخلص تلك المباحثات إلى إبرام أي اتفاقيات جديدة بين البلدين، ولكنها أظهرت رغبة متبادلة بين الطرفين في الحفاظ على الشراكات القائمة وتطويرها، برغم الاختلافات الناشئة حول عدد من القضايا المحددة.

عبّر الفريقان عن ارتياحهما لنمو حجم التجارة السنوية بين البلدين، والذي وصل إلى 69.8 مليار دولار، منها 60.5 مليار (بزيادة 128%) صادرات روسية إلى تركيا، و9.3 مليار دولار (بزيادة 43%) واردات تركية إلى الاتحاد الروسي. وبرغم أن إمدادات الغاز الروسي إلى تركيا انخفضت بشكل ملحوظ هذا العام، فإن الخسائر تم تعويضها من خلال سلع روسية أخرى (الفحم، والحبوب، وما إلى ذلك).

وأكد الطرفان اهتمامهما باستكمال بناء محطة أكويو التركية للطاقة النووية، حيث يعمل 25 ألف متخصص روسي فيها، واحتمال البدء في بناء محطة ثانية للطاقة النووية في سينوب بتركيا، شرط أن تقدم روسيا عرضاً مناسباً. وفي هذا المجال، يبدي الجانب الروسي تحفظاً في الإقدام على تنفيذ مشروع بهذا الحجم، بالنظر إلى تعثر الوضع المالي والاقتصادي في تركيا، حيث وصل التضخم السنوي إلى نسبة 60%، وسعر صرف الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية يتراجع بشكل كارثي. لقد ارتفعت أسعار المواد غير الغذائية في تركيا في الآونة الأخيرة بنسبة 138%، فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 93% مقارنة بالعام الماضي، كما ارتفعت أسعار النقل بنسبة 123.3%. ومن هذه الخلفية يرى الجانب الروسي، أنه يصعب تنفيذ فكرة التحول إلى التسويات المتبادلة بالعملات الوطنية بين روسيا وتركيا. لقد برز مؤخراً أن المصَدّرين الروس لم يقبلوا التبادل بالليرة التركية، كما هو الحال في التسويات مع الهند مثلاً، حيث وصل حجم المبالغ بالروبية في البنوك الروسية إلى عدة عشرات المليارات.

توحي نتائج قمة سوتشي بأن جسور التلاقي بينهما بدأ يضربها الصدأ؟ وهل تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في تركيا سيدفع أردوغان إلى المزيد من ممالأة الغرب والاستجابة أكثر فأكثر لمتطلباته في مجابهة روسيا؟ وهل تعيين رستم عمروف من أصول تتارية (من القرم) وزيراً للدفاع في أوكرانيا، يؤشر إلى إمكانية تحريك التتار الروس ضد روسيا

كانت صفقة الحبوب، إحدى القضايا المركزية التي دفعت أردوغان إلى طلب عقد اللقاء مع بوتين، وذلك على مسافة أقل من شهرين من إنسحاب روسيا منها في 17 تموز/يوليو 2023 بسبب تجاهل الغرب مصالح موسكو المشروعة، كما تقول القيادة الروسية. وقد فشل أردوغان في إقناع بوتين بالعودة إلى إتفاقية الحبوب الرباعية (الاتحاد الروسي، تركيا، الأمم المتحدة، أوكرانيا)، إلا بعد تنفيذ الشروط الروسية التالية:

– إزالة العقوبات عن إمدادات الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية؛

 – إزالة جميع العقبات أمام البنوك والمؤسسات المالية الروسية التي تخدم الإمدادات الغذائية للسوق العالمية، بما في ذلك اشتراط ربطها الفوري بنظام “سويفت” المالي العالمي؛

 – استئناف توريد قطع الغيار والمكونات اللازمة للآلات الزراعية وصناعة إنتاج الأسمدة إلى روسيا؛

– حل المشكلات المتعلقة باستئجار السفن وتأمين صادرات الأغذية الروسية، وضمان لوجستيات الإمدادات الغذائية؛

– إعادة تشغيل خط أنابيب الأمونيا بين تولياتي وأوديسا، والذي “تم تفجيره وتدميره من قبل نظام كييف”؛

– الإفراج عن الأصول الروسية المتعلقة بالصناعة الزراعية.

 وكان من اهتمامات أردوغان في هذه المحادثات مع بوتين دعم مطاحن الدقيق التركية، التي حصلت على الحبوب الأوكرانية الرخيصة، فضلاً عن استفادة تركيا من حركة المرور البحرية المكثّفة في مضيق البوسفور. ويرغب أردوغان، من خلال هذه المباحثات، الاستمرار في لعب دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية.

وعلى الرغم من انهيار صفقة الحبوب، وعدم استجابة الجانب الروسي للضغوط التركية، إلا أن إردوغان يحاول إحياء إتفاق الحبوب من خلال مبادرات جديدة، حسب ما رشح عن مباحثات سوتشي، حيث وعد أردوغان على وجه الخصوص بإثارة هذه القضايا في الجمعية العامة للأمم المتحدة يومي 19 و26 أيلول/سبتمبر الجاري، وعبر عقد سلسلة من اللقاءات مع زعماء الدول الغربية على هامش جلسات الأمم المتحدة.

إقرأ على موقع 180  هجوم "كروكوس" في قلب روسيا.. الميدان الأوكراني مُرشح للإشتعال

وتبحث روسيا بدورها عن طرق أخرى لمواصلة تصدير حبوبها إلى السوق العالمية، بما في ذلك عبر منح تركيا أسعاراً تفضيلية للحبوب التي تعيد تسويقها في الأسواق العالمية، على أن تدعم قطر تمويل الشحن إلى أفريقيا. وفي هذا المجال، سوف تزود روسيا ست درل أفريقية بمليون طن من القمح من إنتاج منطقة الدونباس الخاضعة طبعاً للعقوبات الغربية.

أما في ما يتعلق بمقترحات أردوغان للوساطة في الأزمة الأوكرانية، فقد كان الجواب الروسي واضحاً بأن موسكو لا ترفض أي وساطة في أوكرانيا، بما في ذلك الوساطة التركية. وكان بوتين قد أوصى منظمي اللقاء مع أردوغان بعدم رغبته في التطرق إلى موضوع إعادة قادة “آزوف” المعتقلين في تركيا إلى كييف، حيث يمكن أن تكون رغبته في إثارة هذا الموضوع في الجزء المغلق من المحادثات. وحسب المصادر الروسية المطلعة، فإن القيادة الروسية ترى أنه من غير الممكن أن يساهم التعاون الفني العسكري بين أنقرة وكييف، ودعم تركيا لجميع القرارات المناهضة لروسيا بشأن أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أن تكون جهود الوساطة التي يبذلها أردوغان ذات معنى. فحسب الجانب الروسي، الوسيط يجب أن يكون على مسافة واحدة من أطراف النزاع، وأن يكون محايدًا تمامًا، كما هو الحال تقريبًا في وضع الحكم في أي منافسة رياضية شريفة.

خلاصة القول، إن المصالح المشتركة الروسية التركية لا تزال تضغط على الفريقين برغم ما يظهر من تعارض مصالح بينهما في أكثر من مكان ومجال، في أوكرانيا وسوريا وجنوب القوقاز وشماله وفي آسيا الوسطى. فهل توحي نتائج قمة سوتشي بأن جسور التلاقي بينهما بدأ يضربها الصدأ؟ وهل تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في تركيا سيدفع أردوغان إلى المزيد من ممالأة الغرب والاستجابة أكثر فأكثر لمتطلباته في مجابهة روسيا؟ وهل تعيين رستم عمروف من أصول تتارية (من القرم) وزيراً للدفاع في أوكرانيا، يؤشر إلى إمكانية تحريك التتار الروس ضد روسيا وهم الأكثرية المسلمة في الاتحاد الروسي؟

نتائج قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان، تؤشر إلى أن زواج المساكنة بين البلدين صار مهدداً.. لننتظر ما ستحمل الأسابيع المقبلة من تطورات في المساحات المشتركة بين موسكو وأنقرة.

Print Friendly, PDF & Email
يوسف مرتضى

صحافي وكاتب سياسي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الخلافة الإسلامية والحداثة.. الدين في خدمة "السلاطين" (4)