الكتابة عن الساحة اللبنانية باتت موجعةً حدّ القرف. ما حدث ويحدث كافٍ حتى تُشلّ بعض الأيدي عن الكتابة، خصوصاً إذا وُجّهَت الكلمات بهدف التعرية أو تسجيل اعتراض. لا من هم في السلطة يستمعون لغير أهوائهم. ولا من هم يوالونهم يقرأون أصلاً، إلا القليل منهم. وهؤلاء، باتوا مستعدين لأن يشحذوا الإعاشات على أن تكون لهم كلمة حق في وجه نظام جائر.. وبرغم كل ذلك، ليس للكاتب إلا أن يكتب، لا لأن يسجّل موقف الهيهات في وجه الذّل والخنوع الذي جنّ جنون من هم في السلطة عندما وقف الناس ضدّه. الكتابة اليوم يجب أن تصب في إطار صوغ البديل لكل ما يحدث. الاعتراض أو التظاهر لأجل الاعتراض ما عاد نافعاً. لقد اغتالوا مقولة الـ”لا”. وأصروا ويصرون على أن المجد لمن قال نعم. لا بد من التكتّل كتابةً وضغطاً وحراكاً وتوعيةً لفرض مشروع سياسي جديد. لتركيز ماهية ومعنى الدولة والمواطنة.
الكتابة اليوم يجب ألا تكون مسألة اعتراض أو احتجاج أو تنفيس غضب. النص جزءٌ لا يتجزأ من حراك حقيقي ليس ضد من هم في الحكم. إنما في سبيل تركيز مفهوم الدولة التي تستوعب من هم في الحكم الآن. هو عمل تأسيسي، لا ردة فعلٍ هوجاء. ومع ذلك، تبقى التعرية واجبة بهدف الاقناع بضرورة هذا التأسيس.
في مقالٍ سابق منذ أشهر، كتبتُ أنه مهما اجتهد حسان دياب، ومهما كان يعمل بكدحٍ وجدية، فإنه لن يقدر على تغيير شيء. باب التغيير لن يأتي عن طريق كدحه من داخل النموذج الذي أتى به إلى الحكم، “والذي هو عبارة عن تزاوج ما بين جزء من السلطة السياسية والقطاع المصرفي، الأمر الذي يجعل دياب، في حال كانت لديه النية الحقيقية والجدية للتغيير، محكوماً بالإصطدام الحتمي بكلا السلطتين السياسية (ومن خلفها الطائفية) والمصرفية (أهل النموذج)، إذا قرر المضي بخطواته “الانقاذية”، علماً أنه ثمة مصالح حقيقية تربط معظم فريق اللون السياسي الواحد الذي أوصله إلى رئاسة الحكومة بقطاع المصارف العابر للطوائف والمناطق، ولكنه متمركز ضمن حيز إجتماعي محدد”.
بتعبير آخر، مهما حاول دياب، أن يصارع حاكم مصرف لبنان، باسم الحرص على اللبنانيين، فإن كل محاولاته، للأسف، ستبقى مجرد ظواهر صوتية. النتيجة معروفة. ولقد رأينا أنه عندما كانت الأمور تصل إلى اتخاذ مواقف حاسمة، فإنها كانت تفشل بسرعة. لو كان لدياب وغيره أن يغيّروا لما تشكلت حكومة تسوية. المشكلة مشكلة نظام في الأساس. والخلاص بات معروفاً، لكنهم رفضوه، وفضّلوا أن يخوضوا درب العنتريات الحماسية، بغض النظر عن الصدق في الحماسة من عدمها. فالنتائج في الحالتين واحدة. عنتريّاتٌ وصلت إلى حدّ إخراج أناشيد تهتف باسم حسان دياب!
ماذا يعني أن تسدد مستحقات اليوروبوند وأنت لا تملك خطة اقتصادية ومالية؟ ماذا يعني أن تعترض على حاكم مصرف لبنان دون أن يكون لديك بديلاً له ولنوابه ولا لجنة رقابة ولا مفوض حكومة يراقب ولا خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي بأكمله؟ هل يكفي أن نصفّق لشعارٍ يرفع في وجه حاكم المصرف؟
لطالما كانت السياسة في لبنان تكالباً على المصالح. اليوم، وبعدما انعدمت المصالح وأفلست الدولة، باتت حفلة زجل ودجل. ليس إلا. ثمّة زجّالون ودجالون، وثمة من يطبّل لهم. هذا للأمانة من أكثر المشاهد الحضارية التي تجدها في غابة. قد تجد قردةً ترقص. عصافير تترنّح. لكن زجالون وطبالون ودجالون.. إنها الحضارة في الغابة!
ماذا يعني أن تسدد مستحقات اليوروبوند وأنت لا تملك خطة اقتصادية ومالية؟ ماذا يعني أن تعترض على حاكم مصرف لبنان دون أن يكون لديك بديلاً له ولنوابه ولا لجنة رقابة ولا مفوض حكومة يراقب ولا خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي بأكمله؟ هل يكفي أن نصفّق لشعارٍ يرفع في وجه حاكم المصرف؟
المهم أن كل المواقف العنترية في وجه الحاكم أو المصرف، وحفلة الزجل التي توّجت بعارٍ حقيقيّ سُمي “جائزة ترضية”. في تاريخ لبنان، ثمة ما يعرف بـ”السبت الأسود”. أضافوا إلى الأيام التي تؤرخ مصائبنا يوم “الجمعة الأسود”. يوم سنتذكره مع كل عيد للعمال. الجمعة 1 أيار/مايو 2020 تاريخ توقيع الحكومة طلب مساعدة صندوق النقد.
بأسهل وأبسط تعبير، سلّم اللبنانيون أنفسهم للإمبريالية. يجب أن تكتب المقالات فضحاً لآليات عمل صندوق النقد. لماهية الصندوق. للطرق البديلة التي كان بالإمكان اختيارها، بقرارنا الوطني، لعدم الوقوع في هذا الفخ اللعين. ثمة معارك لم نعرف أن نكون جنودها، على الرغم من أنها أهم المعارك. لم نعرف، لا كما يحاول البعض تصوير الأمور: حاولنا ولم نستطع. نحن لم نحاول أصلاً، خادعٌ من يقول العكس. والأضرب أننا شرّعنا الباب للعدو وأهّلنا به عملياً، أما خطابياً، فقد علت أصواتنا ضده، وماذا بعد؟.
على أهمية المقاومة في الميدان، ثمة مقاومة أهم. الجهل فيها قد يضيّع كلّ نتائج الميدان. ما أصعبه من درسٍ سيتلقنه الجاهلون بفعل التجربة لا بفعل المعرفة. كم هي قاسية نتائج الجهل، أقسى من أي عدوان ربّما.
لقد كان فصل الاقتصاد عن السياسة، فعل غباء شديد للأسف. تبدى قصورٌ حقيقيٌ عند كل من يحمل شعار المواجهة ضد الارتهان للخارج، وعند كل من حمل، سواء بصدق او عن كذب، شعار محاربة الفساد وتقديم المصلحة العامة على ما عداها. هو قصورٌ يستلزم إعادة قراءة الواقع وفهمه من منظور مغاير، وإعادة فهم الإمبريالية بشكلها الجديد القائم على خلق مناطق نفوذ سياسيّة واقتصاديّة من داخل الدّول ذات السّيادة الشّكليّة، كما يشرح ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو.
الآتي عظيم. لا بدّ أن يشعر الناس بأن الأحزاب التي تواطأت على مصلحتهم، أذلّتهم واستعبدتهم. لا بد أن يتجنّب الزعماء استعارة مقولة أن لبنان سيبقى كما كان. لا بد للكتاب والمصلحين ألا يكلوا كتابة فكرية لشرح مفهوم الدولة الحديثة. ولشرح علاقة السياسة بالاقتصاد. ولا بد لرجال الدين أن يمتنعوا عن الدفاع عن السلطة مستغلين سلطتهم الرمزية لإقناع الناس كما حدث مع مسألة الاعتراض على حاكم مصرف لبنان وغيرها من المسائل الكثير. لا بد أن تنهار سلطة وعّاظ السلاطين.
17 تشرين/أكتوبر هو وصمة على جبين كل من حاربه من أهل السلطة ليكرّس نظام الغابة. عفواً. ليكرّس فوضى الغابة. سيبقى رمزاً لفضح الازدواجية. وجرحاً في قلوب الكثيرين. سيورّثونه لأولادهم وأحفادهم. لأن لبنان سينهض يوماً ما. وهو الذي كان قادراً على النهوض دائماً، لولا أن هناك من يعطي أولوية للسلطة ومنافعها ولو على حساب مهادنة الامبريالية والوقوع في فخها، بدل الوقوف مع الناس وإعانتهم وإعانة أحفادهم في المستقبل. لكن الآتي عظيم. ولن ينفع بعده شيء.