الثلاثون من آب/أغسطس، هو “عيد النصر” على قوات الحلفاء واليونان. معه تصبح الشاشات مشدودة إلى بث مشاهد من زمن الحرب الغابرة، فيما تُلقى الأشعار وتصدح الأغاني الدالة على بطولات “أتاتورك” وحنكته العسكرية، ولكن من دون ذِكر حتى من ساعده في حروبه أو كانت لهم أدوار بطولة معه، ومنهم زوجته لطيفة هانم.
هذه المرأة التي كانت مُغيّبة عن مسرح الذاكرة الشعبية التركية لها أهمية في التاريخ. فقد لعبت أدواراً مفصلية في الحرب وفي بناء اللبنات الأولى للجمهورية الناشئة. لعبت دوراً مهماً في تعزيز مكانة المرأة التركية. تأثر بها “أتاتورك” في المجال السياسي، ثم طلّقها بعد مشاجرة بينهما في إحدى الحفلات الرسمية، قائلاً في ختام تجربته الزوجية: “الزواج لم يُخلَق لي”.
حاول “أتاتورك” تقبيلها بفظاظة، فانتزعت سلاحه وأطلقت النار ثلاث مرات في الهواء، ثم قالت له على مسمع من جنوده “إن اقتربت خطوة بعد فالطلقة الرابعة ستكون في رأسي، فأنا لســت مهمة بقدرك في حربنا ضد الأعداء”
ميزة لطيفة هانم أنها محجّبة، وقرّرت أن تتزوج من رجل غالى في علمانيته، لا بل ألغى الحجاب وكل المظاهر الدينية في بلاده. لم تقتنع معه بنزع الحجاب أو الظهور مكشوفة الرأس إلا فيما ندر. “عناد وجنون هذه المرأة كان كبيراً”، على حد قول المؤرخ التركي “إيبك شاليسلار”، فيما يذهب البعض من المؤرخين إلى حد الفجاجة بالقول إنها إمرأة “غير مهذبة” و”عدوانية” و”وقحة”. هذا النوع من الروايات يكون متأثراً برأي بُناة العلمانية التركية وضباط الجيش الذين حكموا الجمهورية التركية بعد غياب مؤسسها، وذلك على عكس الإسلاميين الذين أعادوا الاعتبار إلى لطيفة هانم في أدبياتهم العامة ولو بشكل محدود.
تحمل رواية تعرّف “أتاتورك” على لطيفة هانم شيئاً من الإثارة. عام 1922، كانت لطيفة هانم تعيش في إزمير في منزل والدتها، وقد أكملت دراستها في جامعة السوربون الباريسية في مجال القانون. أتقنت عدة لغات بينها الفرنسية والإنكليزية واللاتينية، وكانت تُتقن العزف على البيانو وتهوى ركوب الخيل. مثّلت لطيفة هانم الصورة الأكثر حداثية للمرأة في بداية القرن الماضي، ولكن من دون أن تتخلى عن عاداتها الموروثة، فكانت تتلو القرآن ولا تشرب الخمر لأسباب دينية.
في ذلك العام، أراد “أتاتورك” إقامة مركز مخفي لإدارة عمليات قواته في مدينة إزمير، فكان منزل والدتها هو المكان الأنسب الذي فُتح أمامه بإصرار من لطيفة هانم نفسها. تردّد الرجل إلى المنزل كثيراً، فيما تقول معظم الروايات إن شجاراً حصل بينهما على شرفة المنزل، وذلك حين حاول “أتاتورك” تقبيلها بفظاظة، فانتزعت سلاحه وأطلقت النار ثلاث مرات في الهواء، ثم قالت له على مسمع من جنوده “إن اقتربت خطوة بعد فالطلقة الرابعة ستكون في رأسي، فأنا لســت مهمة بقدرك في حربنا ضد الأعداء”.
أُعجب “أتاتورك” بالمرأة التي هدّدته بقتل نفسها أمامه، وكان يريد الزواج منها للإنتقال إلى طبقة اجتماعية أعلى والمصاهرة من عائلة غنية وأرستقراطية تعطي صورة مثالية عن الثنائي الحداثي القائد للجمهورية. فتزوج “بطل حرب الاستقلال” من “المرأة المتعلمة” عام 1923 وانتقلا للعيش معاً في قصر “تشانكايا” في العاصمة الجديدة أنقرة. وهناك، حدّثت لطيفة القصر وجعلته غربيّ التصميم، كما رافقت زوجها خلال رحلاته عبر تركيا وألقت العديد من الخطب، كم كتبت له أولى خطاباته كرئيس للجمهورية.
في حياة القصر، لم تكن لطيفة هانم تلك المرأة المهتمة بالإنجاب أو إقامة عائلة كبيرة، بل اهتمت بإجراء دراسات حول حقوق المرأة، كما أقنعت زوجها باعتماد قانون يمنع تعدد الزيجات وآخر يسمح للمرأة بطلب الطلاق من زوجها. إلا أن زواج “ثنائي الجمهورية” لم يدم طويلاً، بعدما شكَت مراراً من إسراف “أتاتورك” بالشرب والسِكر، وهو السبب الذي سرعان ما ساهم بنهاية زواجهما الذي لم يدم أكثر من سنتين ونصف السنة.
في العام 1925، أقام القصر الرئاسي حفل استقبال رسمي للدبلوماسيين الأجانب، فيما طلب “أتاتورك” من زوجته العزف على البيانو للضيوف، لكنها رفضت بسبب تقديم الكحول لهم. فما كان من الرئيس التركي إلاّ أن طلب من أحد أقاربها العزف، فزاد غضبها وتطوّر إلى مشادة كلامية وعلنية بينهما انتهت بجرح نفسها بمروحة اليد وبمحاولة “أتاتورك” صفعها أمام الحضور. كان هذا اللقاء العلني الأخير بينهما قبل الطلاق، وانتقالها للعيش في منزل والدتها.
يحمل التاريخ التركي الكثير من البطولات التي يعمل كُثر على استحضارها. لطيفة هانم هي من صنف النساء اللواتي يسعى تيار “الإسلام السياسي الحديث” على استحضارها في تركيا، لا حُباً وإعجاباً بتجربة “إمرأة ناجحة” أو “إمرأة وقحة”، إنما ذمّاً بتصرفات “أتاتورك” أو للمقارنة “الناجحة” بينها وبين زوجة رئيس الجمهورية، أمينة إردوغان، الداعمة الدائمة لزوجها.