الأيام طويلة جداً بالنسبة إلينا والليل أكثر طولاً والشمس تأتى مثقلة فخلفها تطفو مشاهد الموت المتنقل بين شارع وحارة ومستشفى ومدرسة وكنيسة وتجمع سكنى.. إذا كانت أيامنا تبدو أكثر طولاً من الأربع والعشرين ساعة، فماذا عنهم وهم يعرفون أنهم فى مرمى صاروخ أو قنبلة أو قذيفة بل كل أدوات الموت «الحديثة جداً؟».. ماذا عنهم؟.. ماذا يقول الأب لابنه والأم لولدها الصغير وهو يسأل «ماما ما كل هذا الضجيج؟ أنا خائف» ويلتصق بصدرها ليحتمى به من هول القادم؟.
***
هذه المشاهد التى لم نعتدها برغم أننا متسمرون نتابعها بكثير من الخوف عليهم، على أهلنا وأحبتنا فى غزة تتسابق الأسئلة التى لا أجوبة لها فكلنا يسأل «ما العمل؟» أو ماذا نستطيع أن نفعل أو كيف نوقف هذه الإبادة؛ هى ليست حرباً ولا معركة ولا فريقين متنازعين على قطعة أرض أو سلطة، بل هى إبادة مع سبق الإصرار والترصد ضد شعب لم تستطع كل آلات الموت والخوف أن تبعده عن أرضه..
يعود السؤال «ماذا نستطيع أن نفعل؟ كيف نساعد أهل غزة؟ كيف نوقف الموت؟» على أيدى دعاة الحضارة وحقوق الإنسان والمدنية! ونحن ندرك أو أيقنا أنهم لا يقتلون أهلنا فى غزة بل هم يريدون الموت لنا جميعاً من النيل إلى الفرات ومن النهر إلى البحر ومن مراكش للبحرين فماذا علينا أن نفعل؟
الإجابة هى الأصعب. بعضنا تظاهر واعتصم، وهذا مهم جداً للقول للقائمين على الأمر هنا قبل البعيدين فى واشنطن وباريس وبرلين وطبعاً فى ما يسمى تل أبيب، أننا لسنا مع التطبيع ولسنا مع فتح العلاقات مع النازيين الجدد ولسنا مستعدين أن نقبل بأن نصبح مادة للتدريس فى كتب التاريخ أو ربما مادة فى الأنثروبولوجى حيث تتربع كثير من الشعوب الأصلية الآن برغم وجودها بيننا بعد أن أبيدت على يد المستعمرين القدامى والجدد وبعد أن استباحوا حضارتها وثقافتها ومحوا كل ما تبقى من ملامحها إلا ما هو «مفيد» لهم فى احتفالات الفولكور المزيفة.. وآخرون منا طاردوا رواياتهم وأخذوا على أعتاقهم دحر ما يروجون من أكاذيب وهم ملوك لها. وبعضنا الآخر راح يتصدى للرواية فى مجتمعاتهم وصحفهم وبين مثقفيهم ــ يساريين ويمينيين ــ وكتابهم وفنانيهم بالطبع ليسوا جميعاً معها بل كثيرون منهم أكثر إيماناً بروايتنا من كثير ممن هم بيننا أو ربما يصنعون القرارات فى دولنا!
***
غزة وأهلها سيعلموننا كثيراً من الدروس علنا نتعلم، علنا نفهم، علنا نتطهر، علنا نقوم من ذاك النوم المغلف بالخوف.. أطفال غزة يواجهون الصاروخ القادم ببراءتهم وابتسامتهم ومحبتهم فلماذا يبقى الخوف سيد أى موقف لنا؟
لكن لا يزال السؤال مع كل صورة لطفل وهم ليسوا أرقاماً بل أسماء وحيوات وأرواحاً جميلة، يفاجئونك سواء فى اللقاءات العابرة أو عبر الرسائل التى اكتظت بها هواتفنا «كيف نوقف الموت؟ قلوبنا تنفطر عليهم جميعاً وخاصة الأطفال» وهم محاصرون هناك بقرارات من الدولة العنصرية وكثيرون من أصدقائهم المعلنين منهم والمخفيين تحت حججهم الواهية حتى اقتنع البعض بأنهم خائفون فقط ولكن قلوبهم معنا فهم منا ونحن منهم!
هنا ربما علينا أن نتوقف وهنا أيضاً ربما علينا أن نعيد السؤال الذى خوفونا من إعادته لأنه ربط بتلك المرحلة التى عملوا بكل ما أوتوا من قوة أن يسقطوا كل ما ارتبط بها، حتى الأغانى الوطنية منذ 1967 اختفت ولم تعد إلا فى اللحظات الصعبة وعندما «أمر أولو الأمر» ببثها.. هنا علينا أن نتوقف وربما نحدد لنا بضعة خطوط للسير:
أولها أنه أهم أداة لمقاومة الصهاينة هى دحض روايتهم بل أكاذيبهم فلا تصدقوهم أبداً أبداً.
وثانيها أن لا نعيد نشر ما لا نعرف مدى مصداقيته من صور وروايات وهو مرتبط بالأمر الأول حتماً وهو التدقيق والتمحيص وما نشك فيه فالأفضل أن لا ننشره بل أن نمحيه من هواتفنا وأجهزتنا المتطورة!
وثالثها أن لا نستمع كثيراً للمثقفين والليبراليين الذين يتبجحون بأنهم أكثر عقلانية وفهماً ومعرفة من أى بشر آخرين، بينما هم من أكثر الفيروسات خطورة بيننا فاحترسوا منهم وابتعدوا عنهم ولا تتركوا لهم الفرصة لينشروا الخوف من الهزيمة ويرددوا روايات الدجال أفيخاى أدرعى وغيره حتى إن لم يكونوا مدركين لذلك.
ورابعاً وخامساً وسادساً لا تنسوا أن كل ما يحدث لأهلنا من غزة برغم الوجع المرافق له إلا أنه ثمن يدفعه أهلنا فى غزة فقط ليعيدوا لنا كرامتنا وعزتنا ويدحضوا كثيراً مما قيل وروج. ألم يقال منذ سنين أننا أمة صوتية؟ ها هم المقاومون البواسل فى غزة يعملون بصمت شديد حتى كثر من يريد أن يروج نظريات المؤامرة المتراكمة فى أدراج الأجهزة والمخابرات. وألم يكثروا من أننا «ناقصو عقل وفكر» وها هم رجال غزة ونساؤها يكسرون كل قببهم الحديدية ويفاجئونهم برغم كل ما يملكون من عدة هم وأصدقاؤهم وكثيرون من من هم محسوبون علينا!
***
ما يمكن أن نفعل الآن ربما هو أن نعض على الجرح طويلاً فيما أهل غزة هم الجرح الغائر فى ضمائرنا.. وأن نرفع من راياتهم ومعنوياتهم وأن نقول لهم إننا معكم بعضنا بالكتابة وآخرون بنشر الرواية وكثيرون بالمقاومة عبر المسيرات والعرائض، ولا ننسى أنه بعد غزة سيكون علينا الكثير من العمل وهو فى مجمله ربما تخليصنا، أن نتطهر من كثير من رواياتهم وشوائبهم ومن يسكنون بيننا ويأكلون معنا ويشربون وهم فى حقيقة الأمر أكثر عداء لنا لا كأفراد بل كشعوب من ذاك الصهيونى الغاصب..
غزة وأهلها سيعلموننا كثيراً من الدروس علنا نتعلم، علنا نفهم، علنا نتطهر، علنا نقوم من ذاك النوم المغلف بالخوف.. أطفال غزة يواجهون الصاروخ القادم ببراءتهم وابتسامتهم ومحبتهم فلماذا يبقى الخوف سيد أى موقف لنا؟.. سنغتسل من الخوف والخنوع والسكون والاكتفاء بلقمة العيش المغمسة بكثير من الذل والمهانة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“